ما أخس من قديد إلا عسفان

اقرأ في هذا المقال


المثل هو حكاية شعرية أو نثرية توضح بعض المبادئ الثقافية، أو هي تسلط الضوء على بعض الدروس والعبر، وتختلف الأمثال عن الحكايات الرمزية بأن الحكايات الرمزية مسرودة على ألسنة الحيوانات وقوى الطّبيعة، في حين أن المثل يكون على لسان البشر، وقد أطلق اليونانيون مصطلح المثل على معنى المقارنة والمماثلة، واستخدمت الأمثال لإماطة اللثّام عن المفاهيم الأخلاقية.

عُرف المثل عند أكثر البلغاء، إذ قال الفارابي: “إن المثل هو الذي يرضاه عامّة الناس وخاصتهم على حد سواء بمعناه وبلفظه، وتمكنوا من الوصول به إلى مطالبهم القصيّة وأهدافهم البعيدة”، أما السيوطي فقد قال بالمثل الكثير ومن مجمل ما قاله السّيوطي: “إنّ المثل مجهول السبب ويُجاز فيه ما يجاز بالشّعر، وأما من أين أتت أصول بعض الأمثال العربيّة، فلقد تبين أن الأمثال ما هي إلا انعكاس لثقافة الشّعوب والأمم على اختلاف أديانهم وانتماءاتهم وطبقاتهم.
فالأمثال في الواقع تجسد أفكار تلك الشعوب وتقاليدهم بألفاظ انسيابية، ومن الذين تحدثوا عن طريقة وضع الأمثال ابن الأثير الذي قال: إنّ العرب وضعت تلك الأمثال لحوادث مطابقة لهذا الحدث مرّت به فكان المثل كالعلامة لهذا الشيء، وقد قال المبرد: إن المثل هو تشبيه الثاني بالأول، ومن تلك المواقف وُجدت أمثال، كمواعيد عرقوب، وهذا مثال عن كل موعد باطل وغير ملتزم، ومن هذه الأمثال الكثير التي أتت لتتحدّث عن تجربة أو قصة حدثت مع هذا أو ذاك.

لمَ يُضرب مثل ما أخس من قديد إلا عسفان:

يُضرب هذا المثل للمقارنة بين أمرين كلاهما سيء، وأما “قديد وعسفان” فهما منطقتان في المملكة العربية السعودية، إذ تبعد قديد مسافة مئة وخمسين كيلو مترًا عن مكة المكرمة، وهي تقع في محافظة خليص التابعة لمكة المكرمة، وأما قرية عسفان فتبعد عنها خمسين كيلومتر باتجاه مكة المكرمة وسميت عسفان لتعسف السيل بها وكثرة الأودية، وللقريتين قصة طريفة تربطهما بهذا المثل العربي الشهير : “ما أخس من قديد إلا عسفان “.

قصة مثل ما أخس من قديد إلا عسفان:

يُحكى أن لصًا قام بالتهجّم على واحد من الحقول الزراعية بمركز وادي قديد الذي يقع على طريق الهجرة شمالي مكة المكرمة، وقام بسرقة البعض من منتجات الحقل، فقام الأهالي في وادي قديد بإمساكه، وضربوه ضربًا مبرحًا على فعلته الشنيعة، فهرب هذا اللص وتوجه لمركز عسفان، والذي يبعد قرابة خمسين كيلو مترًا عن وادي قديد باتجاه مكة المكرمة، وهناك قام بتكرار فعلته، وسرق أحد الحقول الزراعية في عسفان، فأمسكه أهالي عسفان، وقاموا بضربه وتأديبه لسطوته على هذا الحقل، فخرج ذاك اللص هاربًا وهو يردد: “ما أخس من قديد إلا عسفان”.

أصبح هذا المثل شائعًا بين الناس، ليس فقط على مستوى السعودية، إنما أضحى مثلًا دارجًا يتداوله العرب للمقارنة بين شيئين سيئين، وقد ذكرت بعض الروايات أسبابًا وقصصًا أخرى لهذا المثل إلا أن الذي يهمنا هو أن تناقل هذا المثل أصبح يسيء لهذه المناطق ولأهاليها، ويشوه تاريخها الحضاري الذي تمتلكه.

للإنصاف مركز وادي قديد الواقع على طريق الهجرة شمال مكة المكرمة يحتوي إرثًا تاريخيًّا عظيمًا ففيه مكان خيمة “أم معبد” المضيافة، والتي كان إحدى محطات رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة، والتي شرب من لبن أغنامها هو وأصحابه، هذا بالإضافة إلى أن وادي قديد يعتبر محطة لقوافل الحجاج المتجهين إلى المدينة المنورة.

كما أنه في مركز قديد غاصت أقدام فرس “سراقة بن مالك” حين كان يبحث عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليظفر بالغنيمة التي قامت قريش بالإعلان عنها في القصة المشهورة أثناء هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم للمدينة المنورة، وفي قديد التقى الرسول صلى الله عليه وسلم بوفد من قبيلة بني سليم حيث دخلوا في الإسلام وشارك منهم قرابة الف فارس في فتح مكة والطائف وحنين.

أما مركز عسفان، والذي يبعد ما يقرب الثمانين كيلو مترًا شمال مكه المكرمة، ويقع على طريق الهجرة فهو يُعدّ من المراكز التاريخية، إذ مر به عدد من الأنبياء والصالحين منهم سيدنا صالح وهود وإبراهيم وآخرهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي عسفان شرعت صلاة الخوف التي تؤدى في المعركة، فقد كانت عسفان سوقًا للبادية يتسوقون منه منذ القدم، وهو منطقة خصبة تصب فيه عدد من الأودية، وفيه سهل الشامية، والمقيطع اللتان تشتهران بالزراعة المطرية والمروية.

أهل هذه المراكز وسكانها من خيرة أبناء المجتمع فمنهم يخرج الأطباء والمهندسون والأكاديميون والقضاة، ويتميزون بالأخلاق العربية الأصيلة من الكرم والجود والنخوة والشجاعة وإغاثة المحتاج وإكرام الضيف وحفظ حقوق الجار فهذه الصفات توارثها الأبناء من الآباء والأجداد، ومن الظلم أن يبقى هذا المثل ملتصقًا بهذه المراكز وسكانها، فلا بد أن تكون هناك حملة لتصحيح هذا المثل ليكون: “ما أحسن من قديد إلا عسفان”.


شارك المقالة: