اقرأ في هذا المقال
كلّ الشعوب التي تداولت الحياة على وجه البسيطة، امتلكت الموروث الثقافيّ الذي يخصها، وكما إنه يجعلها تتفرد به عن غيرها، وهو بدوره يعبّر عن الكثير من الوقائع والمناسبات، التي حصلت خلال التاريخ، ولعل من أكثر أنواع التراث شهرة “الأمثال الشعبية” والحكم، ويقوم الناس باستخدام هذه الأمثال أو الحكم إذا مرّوا بظرف أو حدث مشابه للحدث الأصلي الذي قيلت فيه تلك الأمثال، فيعبرون عنه بمثل أو حكمة، وهكذا تبقى محفوظة، ويتداولها الناس جيلًا بعد جيل مع إضافة ما استجد من أمثال تعبر عن أحداث الحاضر، والمثل الذي بين أيدينا هو: “ويل لقاضي الأرض من قاضي السّماء”.
قصة مثل: “ويل لقاضي الأرض من قاضي السماء”:
في أحد الأيام قام رجل بشراء دجاجة، ورغب أن بتقطيعها بعد أن ذبحها، واتّجه إلى رجل يبيع الدجاج، وأخبره برغبته بأن يقطع له الدجّاجة، فقال له البائع: ارجع بعد دقائق، وستجدها جاهزة بإذن الله، وبعد أن ذهب صاحب الدجاجة، أتى إلى البائع قاضي المدينة، وسأله عن دجاج لشرائه، فقال له البائع أن ليس عنده دجاج سوى هذه الدجاجة، وأن صاحبها سيعود بعد دقائق لأخذها، فقال له: سآخذها أنا، وإن عاد صاحبها قل له: إن دجاجتك قد طارت، غضب بائع الدّجاج من هذا القول كثيرًا وقال له في تعجّب وغضب، كيف أقول للرجل أن دجاجته قد طارت وهو بنفسه من أتى لي بها، وهي مذبوحة، فقال له قاضي المدينة: “اسمع ما أقول لك، وقل له أنها طارت، وإن أشتكى عليك لا تخف”، وسمع بائع الدجاج كلامه خوفًا من سلطته، وأعطاه الدجاجه وهو يتمتم بالدعاء بأن يسترها الله.
بعد مرور مدّة قصيرة، رجع الرجل إلى البائع، وسأله إن كان قد أنهى عمله أم لا، فأخبره البائع أن دجاجته قد طارت، فدُهش الرجل واستغرب أيّما استغراب، وقال له كيف يمكن للدّجاجة أن تطير، وإني أعطيتك أياها مذبوحة، وأخذ يتشاجر مع بائع الدجاج، إلى قال له صاحب الدجاجة أن يذهبا إلى المحكمة؛ ليحكم له القاضي بحقّه، وأثناء ذهابهما إلى القاضي شاهدا في طريقهما مسلمًا ويهوديًّا يتشاجران، فأراد بائع الدجاج أن يفصل بينهما، فأدخل أصبعه في عين اليهودي وفقعها بالخطأ دون أن يقصد، فأمسك به الناس، وأرادوا أن يأخذوه إلى القاضي بالمحكمة لكي يحكم عليه، ولكن الرجل أخذ يجري وهرب منهم ودخل إلى مسجد، والناس من خلفه يريدون أن يلحقوا به، فصعد إلى المنارة، وهم خلفه، وقفز منها على رجل عجوز.
لما سقط البائع على العجوز مات، وأراد أبنه أن يمسك به، ويذهب إلى القاضي؛ ليحكم عليه، وبالفعل تمكن من أن يمسك به، فأخذه وذهب به إلى القاضي، ومعه صاحب الدجاجة واليهودي وبقية الناس الشاهدين على ما حدث، ولمّا وصلوا إلى المحكمه ووقفوا أمام القاضي، رأى القاضي بائع الدجاج؛ فضحك في سرّه وما يكن يعلم أنه أتى له بثلاث قضايا_ وليست قضية واحدة، نادى القاضي على صاحب القضية الأولى، وهو صاحب الدجاجة، وطلب منه أن يتحدث فقال له صاحب الدجاجة ما حدث، وأنه عندما عاد ليأخذ دجاجته، قال له البائع أن دجاجته قد طارت فكيف لها أن تطير، فقال له القاضي ألست تؤمن بالله؟ فقال له صاحب الدجاجة: نعم أؤمن بالله، فقال له القاضي: “يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ”، فاذهب ليس لك عنده شيء.
ثمّ إنّ القاضي نادى على صاحب الشكوى الثانية، فجاء اليهودي وقصّ عليه ما حدث له من فقع عينه، فقال له القاضي: إن دية المسلم من الكافر هي النصف فقط ولكي يستطيع أن يفقأ عينًا واحدة للبائع، يجب أن يفقأ العين الأخرى، فرفض اليهودي أن تُفقأ عينه الثانية وانتهت القضية، ونادى القاضي على القضية الثالثة في سخرية وهو يضحك، فتحدّث ابن الرجل الذي توفاه الله عمّا حدث لأبيه بسبب بائع الدّجاج، فقال له القاضي: اذهب به إلى نفس المكان، واصعد على المنارة، واقفز عليه كما فعل هو بوالدك، فقال له الرجل: وماذا إن ذهب بعيدًا فسقطت أنا على الأرض ومتُّ أنا؟، فقال له القاضي: ولماذا لم يذهب أبوك يمينًا أو يسارًا، حينها قال الرجل: “ويل لقاضي الأرض من قاضي السّماء”، والتي راحت مثلًا يُضرب في مواقف يتمكن فيها أصحابها من ظلم الآخرين بسبب تسلطهم وجبروتهم.
العبرة من مثل: “ويل لقاضي الأرض من قاضي السّماء”:
المقصود من هذا المثل، أن يعتبر الإنسان الذي يُمارس الظلم والبغي على ضعاف البشر، بسبب مركز أو سلطة ممنوحة له، إذ لا بدّ أن يقف يومًا بين قاضٍ لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، إذ إنّ هناك أشخاص يجدون من ينجيهم من أفعالهم ويخرجهم من أي مأزق، ولكن الويل لهم من الله قاضي السماء.