آثار هيكل الأسرة على الجريمة

اقرأ في هذا المقال


الأسرة هي أحد أهم أسباب تطور الإيذاء والجريمة، ويجادل الخبراء والعاملون في مجال الرعاية الاجتماعية والمحامون وعلماء الاجتماع بأنّه يجب تحديد العامل أو العوامل التي توفر نوعًا من الظروف التي يسيء فيها الأفراد إلى الجريمة أو يتسامحون معها أو يقبلونها من أجل تأمين المجتمع وتقليل الأضرار الاجتماعية وتقترح أخيرًا إجراءات إصلاحه.

البيوت المفككة ونظريات التعلق

تعامل علماء النفس مع المنازل المفككة ونظريات التعلق من مجموعة واسعة من وجهات النظر، وأكدت نظريات التحليل النفسي على أهمية علاقات المحبة والتعلق بين الأطفال وأولياء أمورهم، واقترحت هذه النظريات أنّ هناك ثلاث آليات شخصية رئيسية وهي: الهوية والأنا والأنا العليا.

يحتوي المعرف على الرغبات الغريزية اللاواعية (خاصة الجنسية والعدوانية) التي ولد بها الطفل، وكان يحكمها مبدأ اللذة سعيًا وراء اللذة وتجنب الألم، وتطورت الأنا التي كانت مركز الوعي من الهوية في سن الثالثة تقريبًا، وحاولت الأنا تحقيق رغبات الهوية مع مراعاة واقع الاتفاقيات الاجتماعية، وبالتالي يمكن أن تؤخر الإشباع الفوري لصالح الأهداف طويلة المدى، ولن يطور الأطفال غرورًا قويًا إلا إذا كانت لديهم علاقة حب مع والديهم.

تطورت الأنا العليا من الأنا في حوالي سن الخامسة وتضمنت وظيفتين الضمير والأنا المثالية، وعمل الضمير على منع الرغبات الغريزية المخالفة للقواعد الاجتماعية، واعتمد في تكوينه على عقاب الوالدين الذي يثير الغضب حتى ينقلب الأطفال على أنفسهم، واحتوى نموذج الأنا على تمثيلات داخلية للمعايير الأبوية واعتمد تكوينها على الأطفال الذين لديهم علاقات حب مع والديهم، ووفقًا لنظريات التحليل النفسي فإنّ الإساءة ناتجة عن ضعف الأنا أو الأنا العليا الضعيفة، وكلاهما ناجم إلى حد كبير عن ارتباط منخفض بين الأطفال والآباء، وألهمت هذه الأفكار أساليب الإرشاد والعمل الاجتماعي في محاولة لإعادة تأهيل المجرمين من خلال بناء علاقات ودية معهم.

البيوت المفككة

ركزت معظم الدراسات حول المنازل المفككة على فقدان الأب بدلاً من الأم لأنّ فقدان الأب أكثر شيوعًا، وبالاتفاق مع نظريات التعلق فإنّ الأطفال المنفصلين عن والديهم البيولوجيين هم أكثر عرضة للإساءة من الأطفال من أسر سليمة، فعلى سبيل المثال في دراسة جماعية عن الولادة لأكثر من ثمان مائة طفل ولدوا في نيوكاسل أبون تاين في إنجلترا اكتشف إسرائيل كولفين وزملاؤه أنّ الأولاد الذين عانوا من الطلاق أو الانفصال في السنوات الخمس الأولى من حياتهم تعرضوا لخطر مضاعف للإدانة إلى سن الثانية والثلاثين (53 بالمائة مقابل 28 بالمائة).

ومع ذلك فإنّ العلاقة بين المنازل المفككة والجنوح ليست بهذه البساطة التي توحي بها نظريات التعلق، فقد أجرى جوان ماكورد في عام 1982 دراسة مثيرة للاهتمام في بوسطن عن العلاقة بين المنازل التي تفككت بسبب فقدان الأب البيولوجي ثم الإساءة الخطيرة من قبل الأولاد فيما بعد، ووجدت أنّ معدل انتشار المخالفة كان مرتفعًا بالنسبة للأولاد من منازل مفككة بدون أمهات يتصفن بالحنان (62 بالمائة) ولأولئك الذين يعيشون في منازل غير مفككة تتميز بنزاع أبوي (52 بالمائة)، بغض النظر عما إذا كان لديهم أمهات يتصفن بالحنان.

كما كان معدل انتشار المخالفات منخفضًا بالنسبة لمن يعيشون في منازل غير مفككة دون نزاع (26 بالمائة) -والأهم من ذلك- منخفضًا أيضًا بالنسبة للأولاد من منازل مفككة مع أمهات يتصفن بالحنان (22 بالمائة)، وتشير هذه النتائج إلى أنّه قد لا يكون المنزل المفكك هو السبب الإجرامي ولكن الصراع الأبوي الذي يسببه غالبًا، كما يقترحون أنّ الأم المحبة قد تكون قادرة إلى حد ما على تعويض فقدان الأب.

فئات النظريات الحديثة

تندرج النظريات الحديثة للعلاقة بين العائلات المفككة والجنوح في ثلاث فئات رئيسية وهي:

1- نظريات الصدمة: التي تشير إلى أنّ فقدان أحد الوالدين له تأثير ضار على الطفل ويرجع ذلك في الغالب إلى التأثير على الارتباط بالوالد.

2- نظريات مسار الحياة: التي تركز على الانفصال كسلسلة من التجارب المجهدة وعلى آثار الضغوط المتعددة مثل الصراع الأبوي وفقدان الوالدين والظروف الاقتصادية المنخفضة والتغيرات في شخصيات الوالدين وأساليب تربية الأطفال السيئة.

3- نظريات الاختيار: التي تجادل بأنّ العائلات المفككة تنتج أطفالًا جانحين بسبب الاختلافات الموجودة مسبقًا عن العائلات الأخرى في عوامل الخطر، مثل الصراع الأبوي أو الوالدين المجرمين أو غير الاجتماعيين أو دخل الأسرة المنخفض أو أساليب تربية الأطفال السيئة.

تم اختبار الفرضيات المستمدة من النظريات الثلاث في دراسة كامبردج في التنمية المتأخرة -جوبي وفارينجتون-، وهي دراسة استقصائية طولية محتملة لأكثر من أربعمائة ذكر لندن من سن الثامنة إلى الأربعين، في حين أنّ الأولاد من منازل مفككة (أسر ممزقة بشكل دائم) كانوا أكثر انحرافًا من الأولاد من منازل سليمة ولم يكونوا أكثر انحرافًا من الأولاد من عائلات سليمة تعاني من نزاع شديد.

وبشكل عام كان العامل الأكثر أهمية هو مسار ما بعد الاضطراب، فالأولاد الذين بقوا مع والدتهم بعد الانفصال كان لديهم نفس معدل الجنوح مثل الأولاد من أسر سليمة منخفضة الصراع، والأولاد الذين بقوا مع والدهم أو مع الأقارب أو مع آخرين (مثل الوالدين بالتبني) كان لديهم معدلات جنوح عالية، وخلص إلى أنّ النتائج تفضل نظريات دورة الحياة بدلاً من الصدمات أو نظريات الاختيار.

نتائج الأدلة العلمية والتجريبية على الأسر في ظهور الجريمة

تشير الأدلة العلمية إلى أنّ جوهر انفجار الجريمة في أمريكا هو فقدان قدرة الآباء والأمهات على تحمل المسؤولية في رعاية الأطفال الذين يجلبونهم إلى العالم، ويترتب على فقدان الحب والإرشاد على المستويات الحميمة للزواج والأسرة عواقب اجتماعية واسعة النطاق على الأطفال وعلى المجتمع الأوسع.

كما تُظهر الأدلة التجريبية أنّ الكثير من الشباب والشابات من العائلات المفككة يميلون إلى أن يكون لديهم شعور أضعف بكثير بالتواصل مع منطقتهم ويكونون عرضة لاستغلال أعضائها لتلبية احتياجاتهم أو رغباتهم غير الملباة، وهذا يساهم في فقدان الإحساس بالانتماء للمجتمع وتفكك الأحياء إلى فوضى اجتماعية وجرائم عنيفة، وإذا كان على صانعي السياسات التعامل مع الأسباب الجذرية للجريمة فيجب عليهم التعامل مع الارتفاع السريع للشرعية، وعندها يجب أن يتم الاعتبار في ما يأتي:

1- على مدى السنوات الخمسين الماضية كان تصاعد جرائم العنف يوازي ارتفاع عدد العائلات التي هجرها الآباء.

2- تتميز الأحياء التي ترتفع فيها معدلات الجريمة بتجمعات عالية من العائلات التي هجرها الآباء.

3- يشير تحليل كل ولاية في أمريكا على حدة على سبيل المثال لا الحصر من قبل باحثين من مؤسسة التراث، إلى أنّ زيادة بنسبة 10 في المائة في نسبة الأطفال الذين يعيشون في منازل وحيدة الوالد تؤدي عادةً إلى زيادة بنسبة 17 في المائة في جرائم الأحداث.

4- معدل جرائم المراهقين العنيفة يتوافق مع عدد العائلات التي هجرها الآباء.

5- غالبًا ما يتم التنبؤ بنوع العدوان والعداء الذي يظهره مجرم المستقبل في عدوانية غير عادية منذ سن الخامسة أو السادسة.

6- يميل المجرم المستقبلي إلى أن يكون فردًا مرفوضًا من قبل الأطفال الآخرين في وقت مبكر من الصف الأول الذي يستمر في تكوين مجموعة أصدقائه الخاصة، وغالبًا ما تكون العصابة الجانحة في المستقبل.

ومن ناحية أخرى أيضًا فأنّ:

1- الأحياء ذات درجة عالية من الممارسة الدينية ليست أحياء عالية الجريمة.

2- حتى في أحياء المدينة الداخلية عالية الجريمة فإنّ أكثر من 90 في المائة من الأطفال الذين يعيشون في منازل آمنة ومستقرة لا يصبحون جانحين، وعلى النقيض من ذلك فإنّ 10 في المائة فقط من الأطفال الذين يعيشون في منازل غير آمنة وغير مستقرة في هذه الأحياء يتجنبون الجريمة.

3- المجرمون القادرون على الحفاظ على الزواج ويبتعدون تدريجياً عن حياة الجريمة بعد الزواج.

4- إنّ ارتباط الأم الحنونة القوي بطفلها هو أفضل وسيلة لحماية الطفل من حياة الجريمة.

5- الروابط الأبوية القوية ستقلل بشكل كبير من فرصة ارتكاب الطفل لعمل من أعمال العنف.

المصدر: رؤوف عبيد، أصول علمي الإجرام والعقاب (دار النهضة العربية، القاهرة 1985).إيناس محمد راضي (19-9-2015)، "الجريمة"، University of Babylon ، اطّلع عليه بتاريخ 27-4-2017.أ. د. محمد جبر الألفي (20-10-2016)، "ماهية الجريمة الجنائية"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 27-4-2017.سعد الراشد (27-1-2015)، "أسباب الجريمة وطرق مكافحتها"، الجماهير، اطّلع عليه بتاريخ 29-4-2017.


شارك المقالة: