أبو العباس والقضاء على الخلافة الأموية

اقرأ في هذا المقال


أبو العباس والقضاء على الخلافة الأموية:

واجهت الثورة العباسية انتكاسة، وهي القبض على قائد الثورة إيراهيم الإمام ومقتله بعد ذلك على يد الخليفة الأموي مروان بن محمد. وعندما أحس إبراهيم الإمام أنَّ الخليفة مروان سوف يقتله وأنه لا مفر له منه، أوصى بالإمامة من بعده إلى أخيه أبي العباس وأمره أن يسير هو وأهل بيته من الحميمة إلى الكوفة. بعد أن أوصاهم بالسمع والطاعة لأبي العباس وقد بعث إليه بالوصية مع سابق الخوارزمي مولاه، ويوصيه بالقيام بالدولة والجد والحركة وأن لا يكون له بعد الحميمة لبث ولا عرجة حتى يتوجه إلى الكوفة، فإن هذا الأمر صائر إليه لا محالة.

ومن أجل تنفيذ وصية أخيه سار أبو العباس ومن معه من أهل بيته، من الحميمة إلى الكوفة، بعد أن أطلعهم على حقيقة الأمر، فبينما كان أبو العباس سائراً في طريقه قابله عمه داود بن علي وابنه موسى بن داود. وهما متوجهان من العراق إلى الحميمة، فسأله داود عن سبب مسيرة، فأخرة بسببه، وأعلمه بمناصرة أهل خراسان له وأنه يريد الوثوب بالكوفة، فقال له داود: (يا أبا العباس تثب بالكوفة ومروان شيخ بني آمية وزعيمهم في أهل الشام والجزيرة. مطل على أهل العراق؛ وابن هبيرة شيخ العرب في جلة العرب بالعراق؟ فقال له أبو العباس: يا عماه من أحب الحياة ذل، وتمثل بقول الأعشى: فما ميتة أن متها غير عاجز بعار، إذا ما غالت النفس غولها. فالتفت داود إلى ابنه موسى، فقال: أي بني، صدق ابن عمك ارجع بنسا معه نحيا أعزاء أو نموت كراماء فعطفا ركابهما معه).

ثم سار أبو العباس ومن معه حتى قدموا الكوفة في صفر سنة (132 هجري)، وقد كان لهم بها أحسد كبار أنصار الدعوة العباسية وهو سلمة الخلال فعندما وصلوا الكوفة، حاول أبو سلمة أن ينكر قدومهم بحجة أن الوقت غير مناسب، وقال: خاطروا بأنفسهم وعجلوا، فليقيموا بقصر مقاتل وهو على مرحلتين من الكوفة حتى ننتظفر في أمرنا. لقد جاء بنو العباس إلى أبي سلمة لينصرهم ويقف إلى جانبهم إلا أنهم رأوا منه عكس ما كانوا يتوقعون، فخافوا أن يقيموا في تلك الدار وكتبوا إليه يستأذنونه بدخول الكوفة، لأنهم في هذا المكان لا يأمنون على أنفسهم من أن تغير عليهم جيوش الشام، ولهذا فقد أذن لهم أبو سلمة وعلى كره منه، وأنزلهم في دار الوليد بن سعد مولى بني هاشم في بني أود وهو حي باليمن.

كتم أمرهم نحوا من أربعين ليلة عن جميع القواد وأنصار الدعوة العباسية. ولقد حاول أبو سلمة أن ينتهز فرصة اختفاء أبي العباس ومن معه في الكوفة، ليعمل على تحويل الخلافة إلى العلويين، إلا أن محاولته هذه فشلت في النهاية، وذلك بفضل جهود ومساعي الدعاة والقادة الخراسانيين الذين أحبطوا مؤامرته، وقابلوا أبا العباس وبايعوه بالخلافة، ونتيجة لذلك فقد تأخرت البيعة لأبي العباس في الكوفة المدة التي أخفى فيها سلمة أبا العباس أي أكثر من شهر.

البيعة الخاصة لأبي العباس:

ذكرنا سابقاً أن أبا سلمة الخلال أخفى أبا العباس وأهل بيته عن أنصاره والقادة الخراسانيين، فقد أدى ذلك العمل إلى ارتياب الخراسانيين من تصرفاته، فقالوا: (يا أبا سلمة مالك دعونا وما أنت لنا بإمام). وحين سأل أبو الجهم بن عطية عن أبي العباس، كان أبو سلمة يقول: (ليس هذا وقت خروجه لأن واسطاً لم تفتح بعد. ولكن أبا سلمة لم يفلح في النهاية، وذلك بفضل جهود ومساعي الدعاة الخراسانيين، الذين قابلوا أبا العباس وبايعوه وأخرجوه من المكان الذي أخفي فيه. ولتوضيح ذلك هناك رواية أجمع عليها المؤرخون القدامى، وهي أن أحد الخراسانيين وهو محمد بن إبراهيم الحميري ويُكنى أبا حميد السمرقندي كان قد خرج إلى الكناسة وهي محل بالكوفة فبينما هو في الطريق لقي سابقاً الخوارزمي.

فسأله عن الإمام، فقال له أن مروان قتله، ويقصد بذلك إبراهيم الإمام، وأوصى بالإمامة من بعده لأخيه أبي العباس، وهو الآن في الكوفة ومعه أهل بيته، فطلب منه أبو حميد أن يأخذه إليه، فاعتذر سابق الخوارزمي عن ذلك قبل أن يأخذ رأي أبي العباس، وقال: ولمّا حان الموعد المحدد التقياء فسار سابق بأبي حميد إلى المكان الذي يقيم فيه أبو العباس وأهل بيته، فدخل أبو حميد عليهم، وعزاهم بإبراهيم الإمام، وسألهم عن ابن الحارثية فأشاروا إلى أبي العباس، فبايعه بالخلافة.

وهناك رواية يتفق فيها الطبري والمسعودي وابن خلدون، تقول أنه لمّا دخل أبو حميد سأل عن الخليفة، فقال له داود بن علي: هذا إمامكم، وأشار إلى أبي العباس، فسلم عليه بالخلافة، بعد ذلك رجع أبو حميد إلى مكانه وأخبر أبا جهم بن عطية بمكانهم، ثم أنه أخبره بسوء معاملة أبي سلمة لهم، وكان يقتصد في نفقاتهم، إلى حد أنه لم يعطهم مائة الدينار التي كانوا قد طلبوها منه لكي يعطوها أجرأً للجمال عن الجمال التي حملتهم.

فسار أبو حميد وأبو الجهم إلى باقي الدعاة أو القادة الخراسانيين وأخبرهم بذلك فأرسلوا إليهم مائتي دينار بدل المائة. وعلى إثر ذلك اجتمع أبو الحميد بن ربعي وسلمة بن محمد، وعبد الله ابن بسام وغيرهم، فجاءوا إلى الكوفة ودخلوا على أبي العباس وأهل بيته وقالوا: أيكم ابن الحارثية؟ فأشاروا إلى أبي العباس فسلموا عليه بالخلافة وعزوه في أخيه إبراهيم، ثم رجع أبو جهم بن عطية وموسى بن كعب وخلفوا الباقين عند الإمام، بعد أن اتخذوا إجراءات أمنية مشددة ضد أبي سلمة إذ أوصى أبو الجهم أبا حميد قائلاً له: إن أتاكم أبو سلمة فلا يدخل إلا وحده، ولمّا جاء أبو سلمة منعوه من الدخول ومعه أحد فقبل يد أبي العباس وقدميه.

واعتذر له ولمّا بدأ يعتذر رأى أبو العباس أن من حسن السياسة أن يقطع اعتذار أبي سلمة، فقال له: عذرناك يا أبا سلمة، غير مفنذ، وحقك لدينا معظم وسابقتك في دولتنا مشكورة، وزلتك مغفورة: انصرف إلى معسكرك لا يدخله خلل، فانصرف إلى معسكره بحمام أعين.

إن إخراج أبي العباس من الموضع الذي كان مختبئاً فيه ثم إعلان خلافته في الكوفة لا يمكن أن يكون صدفة كما يرى أحد الباحثين، بل يعتقد أن ذلك كله بمبادرة من قادة الدعوة العباسية العرب الذي وصلوا الكوفة، ولهذا فهناك احتمالان الأول هو أن يكون أبو العباس وأهل بيته قد أخبروا بعض قادة الدعوة بقرب انتقالهم من الحميمة إلى الكوفة، فلما أبطأ عليهم خبر ظهورهم فيها، أوعزوا بالبحث عنهم، والاحتمال الثاني وهو الأقرب إلى الظن أن العباسيين حين سمعوا رأي أبي سلمة بضرورة الاختفاء حتى يتجلى الموقف، أرسلوا بذلك الخبر إلى بعض كبار الدعاة، فأسرعوا بقطع الطريق عليه، ومنعه من فعل ما أراد. والرأي الأخير هو الأقرب إلى القبول، حيث أخرج أبو العباس وبويع بالخلافة.

البيعة العامة لأبي العباس:

خرج أبو العباس في اليوم التالي لبيعته الخاصة، فتلقى البيعة العامة من الناس، وبويع أبو العباس بالخلافة في شهر ربيع الأول سنة (132 هجري)، بالكوفة، وقد اختلفت المصادر في تاريخ بيعته، إلا أن المرجح أنها كانت في يوم الجمعة (‎(13‏ ربيع الأول سنة (132 هجري)، وذلك لأن أغلب روايات المؤرخين القدامى تشير إلى هذا التاريخ.

وقيل أن أبا العباس خرج ليلة الجمعة لابساً السواد، فصلى صلاة المغرب في مسجد بني أود، وفي هذه الليلة ظهر أبو سلمة في مسجد الكوفة وكان لابساً السواد، وأعلن ترشيح أبي العباس إلى الخلافة وطلب من الناس مُبايعته. ففي رواية ابن اعثم الكوفي أن أبا سلمة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وخطب في الناس وأوصاهم أن يأتوا إلى المسجد لبيعة أبي العباس.

ولما أصبح النأس في يوم الجمعة كان القواد والناس قد اصطفوا بسلاحهم منتظرين خروج أبي العباس، وقد حضروا له الملابس السوداء التي يلبسها وأتوه بالدواب التي يركبها هو وأهل بيته، وبالسلاح الذي يحمله، وساروا إلى المسجد الجامع، وأقبل أبو سلمة ودخل المسجد وكان لابساً السواد، وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وذكر محمد فصلَّ عليه، وعلى آله الطيبين، ثم أرسل إلى أبي العباس فدعاه.

فركب أبو العباس برذوناً أبلق، وركب معه أهل بيته فدخلوا دار الإمارة، ثم خرج إلى المسجد وصلى بالناس، ثم صعد المنبر حين بويع بالخلافة، ووقف في أعلاه وصعد عمه داود بن علي فوقف دونه، وكان أول عمل قام به فأحبه فيه الناس هو أنه خطب على المنبر قائماً، وكانت بنو أمية تخطب قعوداً، فناداه الناس: يا ابن عم رسول الله أحييت سنة رسول الله، وقد خطب أبو العباس خطبة سياسية بليغة هو وداود.

وبعد إكمال الخطبتين نزل أبو العباس وداود أمامه حتى دخل قصر الإمارة، وأجلس أخاه أبا جعفر لأخذ البيعة على الناس، ثم صلى بهم صلاة العصر ثم صلاة المغرب. إن المهمة التي أسندها أبو العباس لأخيه أبي جعفر وهي أخذ البيعة على الناس في المسجد، تدل على مقام أبي جعفر، إذ أن إسناد أبي العباس هذا الأمر الخطير والمهم لأخيه دون غيره. يوضح لنا بلا شك مقدار الثقة والآمال الكبيرة التي يعلقها على أخيه في سياسة الدولة القادمة.

ويبدو أن عدداً من وفود الأمصار والأقاليم بدأت تفد على بلاط أبي العباس للتهنئة، فقد أرسل إليه عمه عبد الله بن علي وفداً من شيوخ أهل الشام. فحلفوا لأبي العباس أنهم ما علموا لرسول الله قرابة، ولا أهل بيت يرثونه إلا بني أمية حتى وليتم أنتم، كما وصل وفد من أهل نجران وقفوا في طريق أبي العباس بعد مبايعته في الكوفة، فألقوا فيه الريحان ونثروا عليه وهو منصرف إلى منزله في المسجد، فأعجب أبو العباس بهذا العمل، ولا بد أن وفوداً أخرى عديدة وصلت للتهنئة والبيعة كما هي العادة.


شارك المقالة: