حركات الأعراب في عهد عبد الملك بن مروان:
انتهى الصراع الذي بدأ بالفتنة في عصر الخليفة عثمان بن عفان وامتدّ خلال الزمن، وكان هذا الصراع يقف تارةً ويظهر مرةً أُخرى حتى عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، وكان هذا الصراع قد حُرّك بسبب فئتان وهما السبئية والأعراب، وكان الأعراب قد تم دفعهم من قبل السبئية ولكن هذا التحريك قد لقيَ في نفوسهم ترحيباً كبيراً، وكانوا يظنون أن قتلهم للخليفة عثمان حق عليهم؛ لأنه منع عنهم أموال الفيء.
وكانت نتيجة هذه الفتنة أن حدث خلاف في الأقطار العربية وبين السياسة المتبعة بينها، وهذا الخلاف انتهى بانتصار الأمويين والشام على خصومهم، ولكن الفئتان اللتان أثارتان الخلافات ما زالتا رابضتين يترقبان الحوادث وتمتد أيديهما فيها، وكان الأعراب لا يتفهمون روح الإسلام العميقة بل أنهم أخذوا البعض من ظواهر شريعته وتعاليمه.
الفئات التي انقسمت إليها الأعراب:
- فئة الخوارج الذين كانوا يتمسكون بظواهر الإسلام والتشدد فيها.
- فئة الذين كانوا مسلمين بالاسم فقط؛ إذ كانت طبيعة الجاهلية لا زالت عالقةً في نفوسهم.
كان هذان القسمان لا يكتفيان بالغارات والغزوات والقتال والنهب ممّا اختلف الدافع إلى ذلك، أكان ذلك بسبب المذهب أم أنه للثأر والعصبية، والحقيقة هنا بأن الأعراب لم يكونوا يتوقفون عن هذه الغزوات إلا إذا وجد عدو خارجي لهم يهاجمونه، والحق هنا بأن الجهاد هو ما كان باستطاعته أن يقوم بصرفهم عن اندفاعاتهم في الحروب والقتال وعن الأذى الذي أصابوا به قلب الدولة العربية.
الأماكن التي استقر فيها الأعراب في الدولة الإسلامية:
- تجمع أعراب الشام في الجزيرة وتدمر وكانت الفتوحات قد توقفت عندهم في حين من الزمن؛ بسبب الفتن التي حدثت بين المسلمين.
وهذا الصراع دام طويلاً ولكن الخليفة عبد الملك بن مروان استطاع أن يقضي على هذه الفتنة؛ وذلك لأنه وقف محايداً بين فئتين متخاصمتين، كما أنه كان أسرع في توجيه الأعراب للقتال في بلاد الروم، وذلك بعد أن القيسية غلبوا في معركة مرج راهط أمام اليمانية، وكانوا قد عمدوا للثأر إلى أنفسهم، وتولّى هذا الثأر رجلان وهما: زفر بن الحارث وعمير بن الحباب، وكان زفر قد عكّر على الدولة الأموية في حربهم مع مصعب بن الزبير، ولم ينته هذا إلا عندما حاصره عبد الملك وأجبره على الاستسلام.
أما عمير بن الحباب كان يقوم بالقتال مع عبيد الله بن زياد في بداية الأمر، ولكن عندما رأى بأن زفر بن الحارث لم يستطع أن يأخذ ثأر قبيلته استلم الأمر بنفسه، فقام بمهاجمة بني كلب في مواقعهم في جنوب الجزيرة، وقام بمقتلة عظيمة، كما قام بإجلائهم عن أماكنهم في تلك البقعة، وهنا كان على رئيس قبيلة بني كلب وهو حميد بن حريث بن بحدل أن يثأر لقبيلته، فوجد حينها قبيلة بني فزارة وهم القيسيين فقام بمهاجمتها بحيلة منه.
وكانت حيلته بأن أخذ عهداً من الخليفة عبد الملك بن مروان بجمع الزكاة من قبائل العرب، وقام بدخول القبيلة بكل سهولة بواسطة هذه الحيلة، وأعمل السيف فيهم ولكن قبيلة بني فزارة انتقمت منه في موقعة سميّت بموقعة بنات قين، وعندما قام القيسية بإجلاء بني كلب من مواقعهم في جنوب الجزيرة قامت بالامتداد على حدود قبيلة بني تغلب؛ وهي قبيلة شديدة المراس وقوية، وكان مَثَلُها قولها: تغلب تغلب.
وحدث بين عمير بن الحباب وبني تغلب تماساً أدّى إلى فتنة، فحدثت بينهم واقعة وانتهت بمقتل عمير وعندما علم زفر بن الحارث بمقتله وأن الثأر أصبح بيده قام بمهاجمة تغلب، وقام بأخذ ماتي أسير منها وقام بقتهلم جميعاً، وكان رجل في مجلس من مجالس عبد الملك بن مروان اسمه الجحّاف وهو من قيس وتكلّم في هذا المجلس الأخطل وهو شاعر من تغلب فمدح شجاعة بني تغلب وهزئ من قبيلة قيس، فغضب الجحّاف من هذا.
وقام الجحّاف بأخذ الإذن من عبد الملك بن مروان بأن يقوم بجمع الزكاة من القبائل العربية، وقام بدخول أراضي بني تغلب فقتل منهم عدد كبير، وحينها كان على الحكم الأموي أن يقوم بإنهاء هذا الخلاف، وحينها قام الحجاج بن يوسف الثقفي بدوره في ذلك، فقام بدفع ديّه من قتلهم للجحّاف، والحق أن عبد الملك قام بلعب دور الوسيط في الحروب بين قبيلة قيس وأعدائها، ولم يكن يميل لأي طائفة منهما، ولكنه سعى لدرء الفتنة متخذاً موقفه كسيد يعاقب الطرفين ويقوم بالصلح بينهما.
وما أنهى عبد الملك بن مروان حروبه مع عبد الله بن الزبير حتى قام بالإسراع في إرسال العرب ليقوموا بقتال الروم وبهذا يكون قد أنهى الخلاف بينهم وقضى على فتنتهم، وقام الأمويون بالاستمرار بتوجيه أعراب الشام لحرب الروم؛ حتى يقوم بقطع دابر الفتن فيما بينهم.