أنثروبولوجيا الجسد الذكوري

اقرأ في هذا المقال


أنثروبولوجيا الجسد الذكوري:

يرى علماء الأنثروبولوجيا إنه من المستحيل تخيل أي نشاط بشري دون التفكير في الجسد، مما يفسر الاهتمام المستمر بفهمه وتقسيمه عبر تاريخ الفكر البشري، وتصور بعض الفلاسفة مثل فرانز سبنسر، على سبيل المثال الجسد ككيان منفصل عن العقل، بينما نظر إليه آخرون على إنه كائن ثانوي تسكنه الروح، كما يعتقد العديد من المفكرين الدينيين، ومع ذلك فإن هذا الانقسام يقلل من تأثير الثقافة والمجتمع في المظهر الواقعي للجسد، حيث يتعاملان معه كظاهرة طبيعية بحتة، منفصلة عن المتغيرات التي يفرضها الوسط الذي يعيش فيه.

وكانت بداية القرن العشرين نقطة تحول في الدراسات الأنثروبولوجية، حيث توسعت مجالات اهتمامهم لتشمل العديد من الموضوعات المختلفة، بما في ذلك الجسد، وأصبح الباحثون أكثر ديناميكية نتيجة للأهمية المتزايدة لمفاهيم مثل الجنس البشري والعرق، بالإضافة إلى تقدم نشاط حقوق الإنسان، وتأثرت هذه المفاهيم بالبيئة الثقافية وما بعد الحداثة، والتي تم من خلالها إنشاء المفاهيم والقيم أو تنحيتها جانباً، مما يسمح بأخذ أفكار أكثر شمولاً في الاعتبار.

وفتحت أشكال المشاركة الجديدة هذه بابًا للثقافة والخطابة والسياسة لتصبح عدسات يتم من خلالها التعامل مع الجسد كموضوع من عدة زوايا مختلفة، مما يطرح سؤالًا رئيسيًا: كيف يعبر المرء عن نفسه ويتخيله في حياته؟ وهذا هو السؤال الذي كان بمثابة مقدمة لعلماء الأنثروبولوجيا المهتمين بجسم الإنسان، ومع ذلك يمكن القول بأمان أن هناك فجوة علمية يجب سدها عندما يتعلق الأمر بمفهوم الجسد الذكوري، ففي الواقع مجال الدراسات الذكورية بشكل عام مهجور إلى حد ما.

حيث تتم مناقشة دراسات المرأة على نطاق أوسع، وبالتالي غالبًا ما يتم فحص الجسد الذكوري، بينما يتم إنزال الجسد الذكوري إلى مفهوم ضحل وموحد للرجولة يتجاوز الزمان والمكان، وإن استكشاف هذه المسألة ليس أكثر من محاولة لتزويد الأدب الأنثروبولوجي في هذا الموضوع ببعض ما ينقصه، وهذا ما أشارت إليه عالمة الأنثروبولوجيا راوين كونيل عندما تحدثت عن إحداث ثورة في مفهوم الذكورة من خلال التشكيك في الافتراضات السائدة فيما يتعلق بطبيعتها، وينتقدها ويفككها بنفس الطريقة التي يدرس بها علماء الأنثروبولوجيا مفهوم الأنثى منذ فترة طويلة.

مقدمة لمفهوم الذكورة في الأنثروبولوجيا:

يلخص عالم الأنثروبولوجيا ماثيو جوتمان الرجولة في أربع نقاط، والتي لجأ إليها الباحثون منذ فترة طويلة عند التعامل مع القضية:

1- تعريف الذكورة وفقًا لكل ما يفعله الرجال ويفكرون فيه.

2- تعريف الذكورة وفقًا لكل ما يفعله الرجال ويفكرون فيه ليكونوا رجالًا.

3- تعريف الذكورة من خلال مقارنة الرجال ببعضهم البعض، مع الأخذ بعين الاعتبار بعض الذكورية أكثر من البعض الآخر.

4- تعريف الذكورة من خلال العلاقة بين الرجل والمرأة، حيث أن كل شيء ليس في هذه الأنوثة.

واعتبر العديد من المفكرين والمؤرخين تعريف عالم الأنثروبولوجيا ماثيو جوتمان ذا مصداقية، ويرجع ذلك في الغالب إلى وضوحه، والذي ربما أعاق إخضاعه للفحص الواجب، وتمثل دراسة الذكورة في شكلها الحديث الأفعال البشرية ذات الطبيعة الخاصة التي لا تنفصم عن الحياة اليومية بكل تفاصيلها، مما يدفع العديد من علماء الأنثروبولوجيا الحاليين إلى التأكيد على أهمية التشكيك في هذا التعريف الدائم، وتحدي الطريقة غير التاريخية التي يتعامل معها المفهوم.

كما كتب علماء الأنثروبولوجيا أن هناك العديد من المفاهيم المختلفة بدلاً من مفهوم واحد للذكورية متجانسة مع محددات الواقع، كما أكدوا على تأثير هذا التعدد على المهن والأنشطة التي يمارسها الأفراد، أي كيف تراعي هذه التصورات المساحات التي يتحرك فيها الناس وتشكيل شخصياتهم وكيف ينظرون إلى أنفسهم، وفي بعض الدراسات عن الطفوله يروي علماء الأنثروبولوجيا كيف يتم تعليم الأولاد عن أدوارهم الاجتماعية لكي يصبحوا رجالًا في أماكن مختلفة ومتعددة.

وفي بعض الدراسات الأنثروبولوجية يتم تصنيف الفضاء المادي من خلال كيفية تعليم البالغين للرجال الأصغر سنًا فنون المغازلة والإغواء، ومن المهم الإشارة إلى أن اللغة أساسية لخلق مثل هذه المساحات الذكورية، والتي بدورها تسمح بإعادة إنتاج المثل العليا التقليدية للرجولة، حيث تتشكل الذكورة ضمن هذه المساحات باستخدام بعض الاندماجات اللغوية، وتضفي مثل هذه الأماكن بأسمائها الذكورية على رعاتها هالة خاصة من الاستقلال، وحرية التباهي بتجاربهم الذكورية أمام الرجال الآخرين.

وتعرض هذه القصة سمة رئيسية للجنس البشري، وهي سمة تنطبق بالتساوي على الرجال والنساء، أي أن تكوين الذكورة والأنوثة، بكل رجولتهم وأنثوتهم المطلقين يعتمد على السياق الثقافي الذي ينمون فيه، وهذا بدوره يثبت أن الذكورة تعتمد في تطورها على الديناميكيات الاجتماعية التي تختلف باختلاف بيئة كل فرد.

انتقاد محددات أنثروبولوجيا الجسد الذكوري:

عادة ما يكون نهج مفهوم أنثروبولوجيا الجسد الذكوري نهجًا علميًا مستنيرًا إلى حد كبير بالبيولوجيا أو بالأحرى المنطق الحيوي، حيث يصور الجسم على إنه آلة طبيعية تحكمها الهرمونات والجينات، والاختلافات بين الجنسين هي النتيجة الحتمية لمثل هذه المتغيرات، ثم تتبع هذه الاختلافات التسلسلات الهرمية الاجتماعية التي تقسم العمل بين الجنسين الطبيعيين، ومع ذلك هناك منظور آخر يقترب من الجسم كسطح محايد متأثر بالعوامل الثقافية، ووجهة نظر ثالثة تجمع بين المقاربتين السابقتين، وتشرح السلوك الذكوري باعتباره تتويجًا لكل من الجوانب البيولوجية والاجتماعية.

وينتقد بعض علماء الأنثروبولوجيا هذا الخطاب العلمي الذي يركز على المكون البيولوجي للإنسان، ويشيرون إلى أن مفهوم النوع الاجتماعي لم يلعب دورًا في التصنيفات الاجتماعية في بعض المجتمعات، حيث هناك مجتمعات تأسسة على هياكل هرمية لا تولي أي اعتبار للاختلافات الفسيولوجية في الجسم، بل هي مبنية على العمر، علاوةً على ذلك، فإن الوضع الاجتماعي في هذه المجتمعات مرن إلى حد ما، فهو ليس ثابتًا أو محددًا مسبقًا، عندما يتعلق الأمر بالانقسامات بين الجنسين.

ما سبق يتحدى بوضوح الحتمية البيولوجية والثقافية في تحديد الاختلافات الاجتماعية، وفي الواقع كشف علماء الأنثروبولوجيا عن أدلة ثقافية وتاريخية وافرة تثبت التنوع بين الجنسين، وتسلط الضوء على مجتمعات وسياقات تاريخية معينة حيث لا يحدث مشاكل أبدًا أو نادرًا، مثل المجتمعات التي يقوم أفراد الأسرة المسنون أو الخدم بتربية الأطفال، مما يجعل دور المرأة أو الأم في الخلفية، وفي أجزاء أخرى تم أيضًا تفكيك افتراض أن العدوان هو سمة ذكورية في الأساس، حيث تم وصف الرجال الذين يتمتعون بالحنان واللطف بشكل واضح.

أهمية الدراسات الأنثروبولوجية لمفهوم الجسد:

تعالج العديد من الدراسات الأنثروبولوجية مفهوم الجسد بطريقة مجردة كما لو كان كلًا مترابطًا، بينما في الواقع تختلف الأجسام على عدة مستويات، حيث تعتبر الممارسة الجسدية أساسية للهيمنة الذكورية، مما يعني إنه مع عدم القدرة على أداء بعض الأعمال الجسدية يصبح الجنس المذكر تحت التهديد، ويفقد إفلاته من العقاب، وأجرى عالما الأنثروبولوجيا توماس غيرشيك وآدم ميلر دراسة صغيرة لكنها قيّمة، والتي حاولت فهم كيفية تعامل الرجال مع فقدان بعض القدرات الجسدية التي تعتبر مركزية لرجولتهم نتيجة الإصابة أو المرض.

ويلخص علماء الأنثروبولوجيا الجسد الذكوري وآليات التأقلم لهؤلاء الرجال في ثلاث نقاط:

1- هي مضاعفة جهودهم للامتثال لمعايير الهيمنة الذكورية من خلال التغلب على القيود الجسدية.

2- هي إعادة تعريف الذكورة لتصبح أكثر تكيفًا مع حالتهم، مع الاستمرار في الحفاظ على سمات ذكورية معينة، مثل السيطرة والاستقلال.

3- هو رفض جميع معايير الذكورة المهيمنة، والتي تقوم على التصورات السائدة التي تتمحور حول الجسم، وتتحول بدلاً من ذلك إلى سياسة مناهضة للجنس البشري.


شارك المقالة: