يعتبر أوجست كونت أحد أبرز الفلاسفة والعلماء الاجتماعيين في القرن التاسع عشر، و يُعرف بأبيه المؤسس لعلم الاجتماع. لقد كان له دورٌ محوري في تأسيس هذا العلم كأحد فروع المعرفة المستقلة، ووضع الأسس النظرية والمنهجية لدراسة المجتمعات البشرية.
إسهامات أوجست كونت في علم الاجتماع
ولد كونت في فرنسا عام 1798م، وشهد الثورة الفرنسية وما تلاها من أحداث، مما أثر بشكل كبير على تفكيره وأفكاره حول المجتمع والتغيير الاجتماعي. سعى كونت إلى بناء علم اجتماع قائم على الملاحظة والتجربة العلمية، بهدف فهم المجتمع وتطويره.
كانت لأوجست كونت مكانة بارزة بين علماء عصره لما تركه من ثروة فلسفية وإنتاج خصب، بفضل ما تركه من تجديد من مناهج البحث، وكذلك لقد فتح آفاقاً جديدة للدراسة في هذا العلم، وقد لخص لنا أهم إسهاماته في كتابه دورس في الفلسفة الوضعية منها:
- أنه كان أول من كشف عن مبدأ الوحدة العقلية الذي لم يكتشفه أحد وغيرها، كذلك توصل أوجست كونت في الناحية الأخلاقية إلى وجوب اتفاق العقول على المشاكل النظرية التي تتعلق بعلاقات الأفراد ببعضهم وعلاقاتهم بالإنسانية، واتفاق العقول هنا يشكل أساساً لوضع تربية مشتركة يساهم فيها كل أفراد المجتمع.
- نادى إلى هدم النظام السياسي السائد خاصة في المجتمع الفرنسي، وإحلال نظام ثابت محله يحقق فكرتي التقدم والنظام، فهاتان الفكرتان مرتبطتان أشد الارتباط.
- في الناحية الجمالية دعا إلى قيام فن جديد على غرار فن إحياء القديم، أو فن العصور الوسطى، ولكن يختلف في ارتباطه بالعقائد والأفكار القائمة مع حياة المجتمع الوضعي ونظمه ومبادئه.
- ذهب إلى أن كل النظم الاجتماعية السياسية منها والأخلاقية، والاقتصادية تعتمد على الوحدة العقلية القائمة على أساس الفلسفة الوضعية بالذات؛ ﻷن الفلسفة الوضعية هي التي تبرر هذه الوحدة العقلية.
- من النقاط الجديرة بالتقدير عند أوجست كونت هي نقطة تطبيق منهج البحث الوصفي على الظواهر الاجتماعية، وتحقيق وحدة المعرفة الوضعية.
- كان له تأثير كبير في إحلال الفلسفة الوضعية محل الفلسفة المتيافيزيقية، وكان لهذا الإحلال أثر واضح في تكييف النظريات الفلسفية وتغيير مصطلحاتها من الأسلوب الميتافيزيقي إلى الأسلوب الوضعي.
أهم الانتقادات الموجهة إلى أوجست كونت
- أشار كونت بوضوح إلى قواعد منهجية ذات قيمة علمية ولكنه لم يلتزم بهذه القواعد في دراسة موضوعات العلم، ولكنه اتجه اتجاهات أخرى حيث وصل إلى قوانين فلسفية شخصية بدلاً من أن يستخلص قوانين مستخلصة من طبيعة الأشياء.
- أقام كونت منهجه على أساس صدق قانون الأطوار الثلاثة، مع أن هناك انتقادات هامة يمكن أن توجه إلى هذا القانون، فقد أقامه على أساس أن الإنسانية كل لا يتجزأ، مع أن ما نلاحظه هو أن هناك مجتمعات جزئية مختلفة، وقد تحدث عن الإنسانية ككل، ولكن من الملاحظ أن هناك مجتمعات إنسانية، ويختلف كل مجتمع عن المراحل التي يمر بها غيره، مما يصعب معه القول بأن الإنسانية تسير على وتيرة واحدة.
- أرجع كونت نمو الظواهر الاجتماعية إلى نمو التفكير، مع أن المجتمعات في نموها تشهد كثيراً من العوامل التي تتفاعل آثارها وتحدد نتائجها، كما أن التطور في التفكير ليس إلا مظهراً من مظاهر تطور المجتمع، ولا يعتبر هو نفسه سبباً لهذا التطور.
- كان كونت بعيداً عن الاجتماع الديني في تقريره الدين الوضعي الجديد فالاتجاه بالعبادة والتقديس إلى طائفة من بني الإنسان تعتبر فكرة غريبة، لا يقبلها أحد مع كونت، فقد أشار كونت إلى أن الدين الوضعي عنده ينتهي في آخر تحليلاته إلى إحياء ذكرى الرجال العظماء، والفلاسفة الذين قاموا بأعمال جليلة، وخدمات عظيمة للجنس الإنساني.
- التبسيط الزائد: يرى بعض النقاد أن كونت بسط عملية التطور الاجتماعي بشكل مفرط، وأن الواقع الاجتماعي أكثر تعقيدًا مما يصوره.
- التوجه نحو الاستقرار: انتقد البعض توجه كونت نحو الاستقرار الاجتماعي، ورأوا أن هذا يتعارض مع الطبيعة الديناميكية للمجتمعات.
- إهمال العوامل الاقتصادية: يرى بعض النقاد أن كونت أهمل الدور الكبير الذي يلعبه العامل الاقتصادي في تشكيل المجتمعات.
رغم الانتقادات التي وجهت إلى نظرياته، إلا أن أوجست كونت يبقى شخصية محورية في تاريخ علم الاجتماع. لقد وضع الأسس النظرية والمنهجية لهذا العلم، وألهم أجيالًا من العلماء الاجتماعيين. ورغم مرور أكثر من قرن على وفاته، فإن أفكاره لا تزال محل نقاش ودراسة حتى يومنا هذا.