اتساع حركة الزنج:
انتشرت حركة الزنج، وضمّت عدة مناطق من ضمنها الأبلة والأحواز، وترك قسم كبير من سكان البصرة أرضهم، حيث انفض كثير من أهلها عنها، وتفرقوا في بلدان شتى، وقطعت المواصلات بين البصرة وبغداد، انقطعت التجارة، وأصيبت بأضرار بالغة، وتعرضت مدينة البصرة مرات متعددة لغارات الزنج، فقتلوا الكثير من أهلها، وخربوا المسجد الجامع وأحرقوه، وقتلوا من أهلها على حد بعض الروايات التاريخية (،(30,000 وسبوا الأطفال والنساء وحصل الواحد منهم على عشرة أرقاء أو أكثر، فهرب الناس على وجوههم، ثم أرسل الخليفة محمد بن المولد، لنجدة أهل البصرة، فدخل البصرة والأبلة دون مقاومة، لكن صاحب الزنج بيت عسكره وهاجمه.
كما حدثت لمدينة واسط أشد أنواع الخطر الزنج، الذين هاجموها فخلى الناس البلد، وخرجوا حفاة على وجوههم، وأحرقت واسط، توجه الزنج شمالاً. فوصلوا مدينة النعمانية التي أحرقوا سورها وأكثر منازلها وسبوا أهلها، ثم وصلوا جرجراياء فلجأ سكانها إلى مدينة بغداد. لكن الذي عجل في القضاء على حركة الزنج، هو مجيء الموفق، وتحمله مسؤولية قيادة الجيوش العباسية أثر بارز في إخماد حركة الزنج والقضاء عليها.
كانت البداية صعبة، إذ لم يكن الموفق مستعداً للقتال، فهزم حيث أكثر من مرة، ومرت الخلافة في ظروف صعبة جعلت الموفق أكثر من مرة يترك قيادة الجيش ويتوجه إلى سامراء، ومن هذه الحوادث الحرب مع الصفارين في موقعة دير العاقول، وقد خاف الموفق أن يحدث تحالف بين يعقوب بن الليث الصفار، وبين صاحب الزنج، سيما وقد راسل صاحب الزنج، يعقوب بن الليث، وطلب منه التعاون من أجل القضاء على الخلافة العباسية، لكن يعقوب ابن الليث رفض ذلك التعاون.
وكذلك محاولة خروج الخليفة المعتمد على الله ووصوله إلى مصر، حيث قام أحمد بن طولون بمحاولة تعاطف إليه، ودعاه إلى مصر، فتظاهر المعتمد برحلة صيد إلى الجزيرة فعلم به الموفق، فأرسل إلى والي الموصل إسحاق بن كنداج بالقبض على الخليفة وإرجاعه إلى سامراء، وكان أحمد بن طولون قد تهيأ لاستقبال الخليفة، وقدم إلى بلاد الشام من مصر، فأفشل الموفق هذه المحاولة.
لكن وفاة يعقوب بن الليث الصفار سنة (256 هجري)، وأخذ أخةه عمرو بن الليث الصفار الولاية، تغيير ميزان القوى، عمل عمرو بن الليث بفتح صفحة بيضاء مع الخلافة العباسية، وأعلن خضوعه للخليفة العباسي، كل هذه الأمور سهلت مهمة القضاء على هذه الحركة.
لهذا بدأ الموفق بالتفكير بروية في محاربة الزنج ويتأنى ولا يتسرع، وقد أسند الموفق قيادة الجيش لابنه أبي العباس (المعتضد)، كما أمر الموفق ببناء القوارب الصغيرة والمتوسطة لغرض مواجهة الزنج ومحاربتهم بنفس أسلحتهم التي يستخدمونها ضد الخلافة وجيوشها، وقد أظهر أبو العباس من المقدرة العسكرية، وبعد النظر العسكري ما فاق تصور الزنج، الذين اعتقدوا أنه فتى غر، لم تطل به ممارسة الحروب وتدربه عليها حيث لن يتجاوز الـ (23) ربيعاً، لكنه تمكن من تمزيق جيش سليمان بن جامع، كما عمل أبو العباس على بناء قاعدة عسكرية له تُعرف بالعمر لتكون مقراً لجيشه.
وبأ أبو العباس بإتباع خطة مُحكمة، فبعد كل هجوم كان يصطنع بقي من الزنوج ويقربهم، ويعفو عنهم، ويجعلهم قرب أصحابهم ليروا مدى التكريم والتقدير الذي يلقونه، وكانت أخبار هؤلاء تصل إلى جيش صاحب الزنج فتفت في عضده، فاستأمن كثير من جيشه إلى جيش الخلافة العباسية، بهذا أمر صاحب الزنج بوضع الحرس على منافذ الأنهار.
نهاية حركة الزنج:
عندما شدد الموفق وابنه الحصار على صاحب الزنج، أمر صاحب الزنج علي ابن إبان بترك الأحواز والتوجه إليه، فلمّا علم الموفق بهذه المحاولة جاء وأسند ابنه، وتوجه لحرب المدينة المنيعة قرب رامط، واحتل الجيش العباسي الحصن، وأطلقوا سراح (5000) أسيرة مسلمة منهم، ثم أمر الموفق الناس في أخذ ما كان فيها أجمع، وأمر بهدم أسوارها وطم خندقها، وأحرق ما تبقى من السفن فيها.
ثم بدأ الموفق يستعد لمواجهة المنصورة، وقد قام بتحصين الزنج أربع خنادق، وقاموا بجعل مقدمة كل خندق منها يحمل أسواراً يحتمون به، وتمكن الجيش العباسي من دخولها، وخرج سليمان بن جامع، وقد طرد الموفق زهاء ((10,000، من أهل واسط وغيرها فحملوا إلى أهلهم، ثم أمر الموفق بهدم سورها وطم خندقها، ثم توجه الموفق إلى الأحواز فدخلها في رجب سنة (267 هجري)، ومنذ هذا الوقت اقتصر الزنج على مدينتهم المختارة، وأصبحت الحرب تدور حولها.
وأشرف الموفق على المختارة، وكانت مدينة محصنة جداً، (فأشرف عليها وتأملها، فرأى من منعتها وحصانتها بالحصون والخنادق المحيطة بها، وما تحور من الطرق المؤدية إليها، وما أعد من المجانيق والعرادات والقسي الناوكية وسائر الآلات على سورها، ما لم يرَ مثله ممن تقدم من منازعي السلطان، ورأى كثرة عدة مقاتليهم، واجتماعهم ما استغلظ أمره). فرض الموفق حصاراً اقتصادياً واسع النطاق لمنع الطعام والميرة من الوصول إلى المختارة، ونتيجة لهذا الحصار استأمن كثير من الزنج إلى الموفق، وكانوا يلقون كل عناية، ويجعلون قرب أصحابهم ليرون ما يفعل بهم من تكريم.
كما أكثر الموفق من استخدام (الشذا)، ومما يحارب به في الماء، فأمر بإنقاذ الرسل في حمل المير في البر والبحر، وإدرارها إلى العسكر بالمدينة التي سماها الموفقية، وكتب إلى عماله في النواحي في حمل الأموال إلى بيت ماله في هذه المدينة وأنقذ رسولاً إلى سيراف وجناباً في بناء الشذا والاستكثار منها، لِمَا احتاج إليه من ترتيبات في الموضع التي يقطع بها المير عن الخائن وأشياعه، وأمر بالكتابة إلى عمال بالنواحي بإنقاذ كل من يصلح للإثبات في الديوان، ويرغب في ذلك.
كما تشكلت الأسواق في المدينة، وأمر بإنشائها، وأمر التجار بالتجارة فيها (إذ وردت المير متتابعة يتلو بعضها بعضاً، وجهز التجار صنوف التجارات والأمتعة وحملوها إلى المدينة الموفقية، واتخذت بها الأسواق وكثر بها التجار والمتجهزون من كل بلد)، كما أمر بإنشاء دار لضرب الدراهم والدنانير، يُضاف إلى ذلك فتح الطريق التجاري بين البصرة وبغداد. كما ضرب الموذق وابنه المعتضد على أيدي تجار الحروب ممن كان يُساعد الزنج. وقد جرت محاولات مُتعددة لدخول المختارة ففي ذي العقدة من سنة (267 هجري)، قام الموفق بهجوم كبير على المختارة، وأمر أصحابه أن يهدموا سورها ولا يدخلوها، فدخلوها فتأذوا بها كثيراً.
ثم توالت نجدات الخلافة للموفق من سامراء، وجاء الكثير من المتطوعة للجهاد، وبلغ عدد من هاجم المختارة في (72) محرم في سنة (270 هجري)، (50,000) مقاتل من الرجالة و (2000 فارس)، فقضي على الحركة، وقتل صاحبها وأتباعه، واستأمن من الباقون، وقد أصدر الموفق منشوراً إلى المسلمين يبشرهم فيه بانتهاء الخطر و (يدعو أهل البصرة والأبلة وكور وجل وأهل الأحواز وكورها، وأهل واسط، وما حولها)، بالرجوع إلى مدنهم ومناطقهم ومزاولة أعمالهم الاعتيادية.