الإجماع والصراع من تحديات علم الاجتماع

اقرأ في هذا المقال


الإجماع والصراع من مآزق علم الاجتماع:

تميل بعض الاتجاهات النظرية في علم الاجتماع، بما فيها المدرسة الوفية، إلى أن المجتمعات البشرية تتميز بخاصية أساسية أصيلة فيها، وهي النزوع إلى النظام والانسجام فيما بين أجزائها.

ويعتقد أنصار هذا الاتجاه أن أبرز السمات الظاهرة في المجتمع تتمثل في الاستمرارية والإجماع، ويرى آخرون من جهة أخرى أن أبرز ما يميز المجتمع البشري هو عنصر الصراع، والمجتمعات حافلة بالنزاعات، والتوترات والاختلافات.

ومن الوهم الافتراض بأن أفراد المجتمع يحبذون بطبيعتهم إلى العيش والتعايش، في إطار من التجانس والوئام والمودة الكاملة، دون مقابلات بين المصالح العميقة المتنوعة التي قد تتبلور آخر الأمر على هيئة الصدام المباشر وغير المباشر.

ومن المفيد، أن نبدأ بدوركايم، الذي ينظر إلى المجتمع بوصفه منظومة من الأطراف المتداخلة بصورة متبادلة من حيث اعتماد بعضها على بعض، ويذهب الوظيفيون في تفسيرهم لهذه المقولة إلى القول إن المجتمع وحدة كلية متكاملة، تتكون من بنى تتداخل إحداهما في الأخرى بصورة وثيقة.

ويتفقون في ذلك مع تأكيد دور كايم على جانب الحدود المقيدة التي تفرضها الحقائق الاجتماعية الخارجية، غير أن أوجه الشبه في هذه الحالة لا ترتكز إلى جدران المبنى، بل إلى الترابط العضوي الفسيولوجي ﻷعضاء الجسم.

فلكي يتسنى للمجتمع أن يحافظ على استمراريته واستدامته، فإن على مؤسساته التخصصية، مثل النظام السياسي، الدين، العائلة والنسق التعليمي التربوي، أن تعمل كلها في تناغم وانسجام في ما بينها، ويعتمد استمرار المجتمع من ثم على التعاون الذي يتحول بدوره إلى نوع من الإجماع والاتفاق بين أعضائه على مجموعة من القيم الأساسية.

ويتوزع المنظرون الاجتماعيون الذين يركزون على الصراع الاجتماعي بين تشكيلة واسعة من المدارس التي تعود أصولها إلى أطر مرجعية متقاربة.

ويمكن أن نتلمس واحداً من أبرز هذه الأطر التي تستهدي بها النظريات الصراعية في نظرية كارل ماركس عن الصراع الطبقي، إذ يرى ماركس ببساطة أن المجتمع يتكون من طبقات تسودها اللامساواة والتفاوت في وصولها واستغلالها للموارد.

ويؤدي هذا التفاوت والإجحاف المستمران إلى تجذر تقسيم المصالح وترسخها بحيث تصبح جزءاً لا يتجزأ من النسق المجتمعي العام، ويسفر صراع المصالح هذا في مرحلة ما إلى إحداث التغير المجتمعي أو تفعيله، ولا يميل أنصار المدرسة الصراعية جميعهم إلى التركيز على الواقع الطبقي على نحو ما فعل ماركس، إذ يميل بعضهم إلى التشديد على أهمية أبعاد وأطراف أخرى مثل الجماعات السياسية أو المنازعات الإثنية.

ومهما كانت طبيعة وجهات النظر الصراعية تلك، فإنها تجمع على أن المجتمع حافل في جوهره بالتوترات وعوامل الشد والجذب، ويمضي هؤلاء إلى القول إن المجتمعات ذات النظم المجتمعية الأكثر استقراراً في ظاهرها إنما تمثل حالة من التوازن الهش القلق بين الجماعات المتنازعة فيها.

وكما هي الحال في ثنائية البنية والفعل، فإن من غير المتوقع أن تؤول المساجلات النظرية الدائرة حول النظريات الاجتماعية الصراعية، أو فيها بينها، إلى نوع من التوافق أو التوفيق.

بل إن شقة الخلاف تزداد اتساعاً بين المنظور الصراعي من جهة، ومنظور التفاوت بين البنية والفعل من جهة أخرى، وعلى الرغم من ذلك فإنه لا يمكن الإنكار بأن جميع المجتمعات تتفق، كلا على حدة، بمنظومة معينة من القيم، كما أنها جميعاً تتسم على الصعيد الداخلي بالصراع والتوتر، ومن ناحية ثانية، فإن علينا في معرض التحليل السوسيولوجي أن نتقصى دائماً العلاقة بين الإجماع والصراع داخل النسق الاجتماعي.

فالقيم التي تحملها الجماعات المختلفة والأهداف التي يسعى أفرادها إلى تحقيقها تتمفصل في مواقع تتوافق فيها المصالح أو تتعارض، وحتى في التحليلات التي قدمها كارل ماركس للأوضاع الطبقية، فإنه أشار إلى أن الشرائح الطبيقية المختلفة في المجتمع تشترك في مصالح معينة واحدة رغم أن الصراع يظل قائماً فيما بينها حول مصالح أخرى.

فالرأسماليون يعتمدون على القوى العاملة في تشغيل مصانعهم ومشروعاتهم الإنتاجية مثلما يعتمد العمال على الرأسماليين في تأمين الدخل ومصادر الرزق.

كما أن الصراع المكشوف قد لا يمثل حالة اجتماعية مستمرة ودائمة، بل إن المصالح المشتركة بين الطرفين قد تدفع بكليهما إلى تجاوز ما بينهما من خلافات أو في حالات أخرى، إلى التشدد والمضي في المواجهة والصراع إلى حدودها القصوى.

ومن المفاهيم المفيدة في تحليل العلاقة الترابطية بين الصراع والإجماع مفهوم الأيديولوجيا وهي منظومة القيم والمعتقدات التي تسهم في تعزيز الموقع الذي تحتله الفئات على حساب الجماعات المستضعفة.


شارك المقالة: