اقرأ في هذا المقال
- الإقطاعات العسكرية الأتابكية وقواعد توزيعها وإدارتها
- أهداف الإقطاع الأتابيكي
- قواعد توزيع الإقطاعات الأتابكية
الإقطاعات العسكرية الأتابكية وقواعد توزيعها وإدارتها:
إنَّ الأتابكية هي إقطاعية عسكرية منحت إلى قاعد عسكري لخدمات مقدمة إلى السلطان السلجوقي، ولمّا كان عماد الدين زنكي من المماليك السلاجقة العسكريين عايش النظام الإقطاعي السلجوقي بحكم كونه تولى ولاية البصرة وواسط إقطاعاً للسلاطين السلاجقة، إن النظام الإقطاعي الذي أقامه في أتابكية الموصل هو صورة للنظم الإقطاعي السلجوقي، وإنَّ التنظيمات الإدارية والعسكرية للسلاجقة طبقها عماد الدين في الموصل أنشأ بنو بوية بني سلجوق وأنشأ بنو سلجوق بني أرتق وآق سنقر جد بني زنكي.
لقد بنى الأتابك عماد الدين سياسة الإقطاعية على أساس توزيع الإقطاعات على أمرائه وجنده نظراً للظروف السياسية والعسكرية التي واجهت الأتابكية الناشئة، فمن الجانب السياسي كانت علاقة الأتابك بالسلطة السلجوقية قلقة وغير مستقرة على الرغم من أنَّ اسم السلطان السلجوقي يذكر بالخطبة والسكة إلا أنه حاول الاستقلال في حكمه، قال ابن الأثير: (كان يصنع أصحاب الأطراف على الخروج عليه (على السلطان مسعود)، فإذا فعلوا عاد السلطان إليه وطلب أنّ يجمعهم على طاعته فيصير كالحاكم على الجميع وكلهم يداريه ويخضع له ويطلب منه أنّ تستقر القواعد على يده).
من أجل ذلك عمل الأتابك عماد الدين على تأسيس إمارة إقطاعية مستقلة بدين له أمراء الأطراف ويخضعون له. لقد كانت السلطة السلجوقية تدرك هذا الأمر وكان السلطان السلجوقي، كلما انفتق عليه فتق نسبة إلى زنكي، ليتمكن هو من فتح البلاد التمكن في الملك.
أما الجانب العسكري فإنَّ الإمارات الصليبية في بلاد الشام كانت تشكل خطراً دائماً وعقبة بوجه طموح الأتابك عماد الدين في ضم بلاد الشام؛ لذلك فإنه كُلما فتح منطقة بلاد الشام يقوم بإصلاح شأنها وإقطاع بلادها لجند يختبرهم ويعرف نصحهم وشجاعتهم.
عندما فتح مدينة الرها من أيدي الصليبيين سنة (539 هجري)، ترك فيها حامية عسكرية وأقطعها للجند. ومن أجل توحيد القوى ضد الصليبيين عمل على إقطاع بعض الأمراء من أجل صد هجمات الأفرنجة وقتالهم، فقد أقطع الأمير سوار بن أتيكين الأقطاعات الكثيرة في ولاية حلب وأعمالها واعتمد عليه في قتال الأفرنج وكان له بصيرة في الحرب وتدبير الأمور. وعمل الشيء نفسه مع التركمان الياروقية الذين أقطعهم بولاية حلب واستفاد من خدماتهم في التصدي للأفرنج.
استطاع الأتابك عماد الدين خلال فترة وجيزة من حكمه من أنّ يحصل على توقيع بملك الشام كله، واستقر ملك أتابك بالموصل والجزيرة والرحبة وحلب والتوقيع له بجميع بلاد الشام وغيرها. لقد اتخذ الأتابك عماد الدين من الإقطاع وسيلة لحماية دولة ولضمان ولاء الأمراء والجنود له لأنَّ الأرض المقطعة تحفز صاحبها للدفاع عنها والإخلاص للأتابك صاحب الفضل في الإقطاع، فكانت سبباً في الصبر بالحرب.
أهداف الإقطاع الأتابيكي:
لقد استهدف عماد الدين منح الإقطاعات لقادة جنده وأهمها:
1- أنه أراد من الإقطاع وسيلة لتأكيد سلطته المركزية على المدن التابعة للأتابكية التي فتحت بقوة السلاح وأقطعها للأمراء يحكمونها كولاة تابعين إليه باعتباره صاحب السلطة السياسية والعسكرية في الأتابكية.
2- إقطاع مكافأة لخدمات قدمت له من قبل بعض الأمراء اعترافاً منه بفضلهم فقد أقطع الأمير الحاجب صلاح الدين محمد الياغسياني الذي لعب دوراً مهما في موافقة السلطان محمود بإقطاع الأتابك الموصل فأقطعه حماة. وكذلك أقطع نائبه ومقدم عسكره زين الدين علي كوجك أربل وشهرزور وتكريت.
3- إقطاع حماية لنفسه ودولة من بعض الأشخاص الذين يشكلون خطراً بشكل أو بآخر على أتابيكية ونظامها الناشئ، فقد أقطع الأمير جاولي الذي كان وصياً على ابن عز الدين مسعود مقطع الموصل من قبل السلطان محمود فأقطعه الرحبة تخلصاً من خطر. وعندما تسلم الأتابك حمص سنة (533 هجري)، عوض صاحبها معين الدين أنر بارين والكمة والحصن الشرقي.
4- إقطاع تآلف فقد عمل الأتابك عماد الدين على استمالة بعض أعدائه من خلال منحهم الإقطاعات الوفيرة مقابل التنازل عن بعض الحصون المهمة، فقد أرسل الأتابك عماد الدين إلى صاحب قلعة جعبر، يأمره بتسليمها إليه ويضمن له الإقطاع الوافر، كذلك أنه فتح عدة حصون وقلاع وهبها كلها إلى صاحب ماردين الأمير حسام الدين تمرتاش على سبيل المودة بينهمال.
اتخذ الإقطاع الأتابيكي مساراً آخر في عهد الأتابك نور الدين محمود بن عماد الدين، فقد أصبح الإقطاع الأتابيكي وسيلة لحماية الدولة الأتابيكية من اعتداءات الأفرنج المستمرة خصوصاً في المناطق الوعرة التي يصعب وصول القوات الأتابيكية إليها، فقد عمل الأتابك نور الدين على أقطاع بعض أمراء التركمان والأرمن على سبيل التآلف.
وهو أسلوب انتهجه الأتابك نور الدين يدل على الاستراتيجية العسكرية التي خطها هذا الأتابك والتي تهدف إلى عدم تشتيت جهد القوة العسكرية الإسلامية في جبهات متعددة خصوصاً ان بعض تلك المناطق جبلية وعرة صعبة المسالك، لذلك فأن استمالة أمراء تلك المناطق وبذل لهم الرغائب من الإقطاع يساعد ولو لفترة على سد ثغرة يمكن أنّ تصبح خطراً على الجهد الإسلامي في تحرير بلاد الشام من الأفرنجة.
5- لقد وضح الأتابك نور الدين هدفه من منح إقطاع إلى ملك الأرمن مليح بن ليون بقوله: (إنما حملتني على استمالة إنَّ بلاده حصينة وعرة المسالك وقلاعه منيعة وليس لنا إليها طريق وهو يخرج منها إذا أراد فينال من الإسلام فإذا طلب انحجر فيها فلا يقدر عليه فلما رأيت الحال هكذا بذلت له شيئاً من الإقطاع على سبيل التآلف حتى أجاب إلى طاعتنا وخدمتنا وساعدنا على الأفرنج).
بعد وفاة الأتابك نور الدين لم يسير من جاء بعده على هذا النهج فأصبح ابن لاون خطراً على المسلمين وصار منه ضرر عظيم. وكذلك استخدم الأتابك نور الدين أمراء التركمان في الوقوف بوجه أطماع الأمير الصليبي جوسلين. الذي كان يحتل أماكن واسعة شمال حلب فاستطاع هؤلاء من أسره وسهل عملية فتح قلاعه والحصون وبذل لهم من الرغائب والإقطاع والأموال.
قواعد توزيع الإقطاعات الأتابكية:
لقد كان النظام الإقطاعي الأتابكي قائماً على منح وارد الأرض، فقد نهى الأتابك عماد الدين أجناده عن اقتناء الأملاك وكانت سياسة الإقطاعية قائمة على هذا المفهوم معللاً سبب ذلك بقوله: (مهما البلاد لنا فأي حاجة بكم إلى الأملاك فإنَّ الإقطاعات تغني عنها).
إنَّ الإقطاع الأتابكي كان إقطاع استغلال وأنَّ الملكية هي لأصحاب الأراضي من الفلاحين، فقد كان الأتابك ينهي أجناده عن اللحاق الأذى بمحاصيل الفلاحين، وكان لا يجسر أحد من أجناده أنّ يأخذ لفلاح علاقة تبن إلا بثمنها، وأنَّ تعدى أحد صلبه. وكان ينهي (عن الكلف والسخرة والتشغيل على الرعية).
إذ ليس للمقطع أي سلطة قانونية على إقطاعية، وكان الأتابك زنكي يهدف من هذا الأجراء عدة أمور، فقد أدرك بأنه بحاجة إلى جند نظاميين على أهبة الإستعداد لصد المخاطر المحيطة به خصوصاً أنه اتخذ الجهاد ضد الصليبيين طريقاً له لذلك فإنَّ وجود قوى عسكرية أمراً ضرورياً وأنَّ اقتناء الأملاك سوف يؤدي إلى عكس الهدف الذي من أجله منحت الإقطاعات.
بالإضافة إلى ذلك إنَّ توزع الجنود في إقطاعاتهم يصعب جمعهم والمسير بهم إلى الجهاد، بالإضافة إلى ذلك الأضرار التي سوف يلحقونها بالرعية من جراء ذلك وقد أثنى ابن الأثير، على هذا الفعل بقوله: (فما أحسن هذا الخلق وأحسن هذا النظر للرعايا وأكثر هذه الشفقة عليهم والرحمة بهم).
كان الأتابك عماد الدين يباشر بنفسه (تقرير قواعد الجنود وإقطاع العساكر). بوصفه السيد الإقطاعي المسؤول عن إقطاعات الأمراء، وكانت القاعدة المتبعة في توزيع الإقطاعات في الدولة الأتابيكية يعتمد على نظام الخدمة العسكرية إذ أنَّ الإلتحاق بجيش الأمير الأتابكي الإقطاع الأتابكي إقطاع مقابل خدمة في الجيش الأتابكي يذكر ابن الأثير رواية من أحد أمراء نور الدين محمود مهدداً من ينهزم أو يخاف القتل في المعركة يسحب الإقطاع منه يقول: (والله لئن عدتم إلى الملك العادل من غير غلبة وبلا عذر تعذرون فيه ليأخذن إقطاعكم)).
إنَّ أساس الخدمة العسكرية والإخلاص للأمير الأتابكي، هي الدافع الرئيسي لمنح الإقطاعات وفي حالة وفاة المقطع تسترجع منه الإقطاعية وتمنح إلى شخص آخر يحوز ثقة الأمير، ففي سنة (533 هجري)، توفي مقطع مدينة حران الأمير سوتكين الكرجي فأرسل الأتابك إلى من يأخذها.
اتخذ الإقطاع الأتابكي مساراً آخر في عهد الأتابك نور الدين محمود الذي جعل من الإقطاع وراثياً يتوارثه أبناء المقطع فهذا الفعل إنعكاس للاستراتيجية العسكرية التي انتهجها الأتابك نور الدين محمود التي أوجدتها الظروف السياسية والعسكرية في بلاد الشام في فترة الحروب الصليبية.
وخاصة إذا أدركنا ان الخدمات العسكرية المقدمة للأمير الأتابكي مرتبطة بمنح الإقطاعات لهم، إنَّ النظام الإقطاعي الوراثي كان نتيجة طبيعية بسبب اتساع حركة الجهاد ضد الصليبيين وتوافد أعداد كبيرة من العناصر غير العربية إلى الإنضمام للجيش الأتابكي النوري من تركمان وأكراد وأرمن، كان نجم الدين وأخاه أسد الدين من الأكراد قد حازا على إقطاعات وفيرة من الأتابك نور الدين وتولوا الوظائف المهمة في الدولة الأتابكية.
وكانت هذه الإقطاعات قد توارثوها فيما بينهم، فقد أقطع الأتابك نور الدين أسد الدين الذي أصبح من أكابر أمراء مدينة حمص وبقوا يحكمونها حوالي مائة سنة ثم أضاف إليه الموزر وأقطع نجم الدين بعلبك ومنح إقطاعات واسعة ووفيرة في مدينة دمشق بسبب الخدمات التي قدموها له أثناء فتحها.
وكانت القاعدة المتبعة في توريث الإقطاع كل من قتل أعطى أولاده إقطاعه فإذا كان للمقطع ولداً كبيراً نصب مكان أبيه واعترف به إقطاعياً في إقطاعه وإنّ كان صغيراً رتب الأتابك معه رجلا عاقلاً يدير إقطاعه إلى أنَّ يكبر فإنّ لم يكن له ولد فعلى بعض أهله، فكان هذا الأسلوب في الإقطاع سبباً في الصبر بالحرب والدفاع عن الأملاك حتى كان الأجناد يعللون سبب ذلك بقولهم: (هذه أملاكنا يرثها الولد عن الوالد فنحن نُقاتل عنهم).