الاتجاه نحو المسؤولية الاجتماعية المحدودة:
جاء هذا الاتجاه للتخفيف من ضغط الرأي العام على المشروعات الصناعية وتأييداً لحجم التطبيق العملي لها ونوعيته، على الرغم مما أظهرته التجربة العملية من سلبيات شوهت مضمون المفهوم النظري للمسؤولية الاجتماعية وأهدافها، على أساس أن المشروعات الصناعية لا تستطيع، لاعتبارات خاصة بها، أن تتحمل قدراً أكبر من المسؤولية الاجتماعية.
فلقد جاء في تقرير انتهت إليه المجموعة التي شكلتها لجنة التطور الاقتصادي أن المشروعات الصناعية محدودة بالضرورة فيما نستطيع أن تقدمه لتطوير المجتمع وفي كيفية تنفيذه بسبب قيود داخلية كثيرة، والتكاليف والأرباح من أهم هذه القيود الداخلية، فلا يوجد مشروع صناعي مهما كان حجمه يستطيع أن يتحمل تكاليف تعرقل قدرته على التنافس وتهدد حياته بالتوقف، وإذا كان في امكان المشروعات الصناعية أن نتحمل بعض التكاليف التي تتطلبها بعض الأنشطة الاجتماعية، على أساس المساواة بينها، فإن هذه التكاليف ينبغي أن يكون لها ما يبررها من الأرباح المتوقعة المنظورة.
وهذا يعني أن مساهمات المشروع الصناعي في الأنشطة الاجتماعية ينبغي أن تؤدي إلى زيادة أرباحه، وهذه النتيجة هي التي تحدد مدى هذه المساهمات، وهنا تظهر النظرة الاقتصادية وراء الاتجاه نحو المسؤولية الاجتماعية المحدودة للمشروعات الصناعية.
وإذا كانت هذه النظرة الاقتصادية تجد أصولها في النمط التقليدي ﻷيديولوجية الصناعة، فإن ضغط الرأي العام جعل للمسؤولية الاجتماعية المحدودة بُعداً سياسياً فالمشروعات الصناعية أصبحت بسبب كبر حجمها واتساع نشاطها ذات صفة عامة تفوق صفتها الخاصة، حيث أصبح لزاماً على مديريها أن يمارسوا دوراً سياسياً لا يقل أهمية عن دورها الاقتصادي، لمواجهة المصالح العامة للمجتمع والمصالح الخاصة لجماهيرها.
ومهما كانت حرية التصرف أمامها محدودة، ومهما كانت القيود المفروضة عليها من النظام الاقتصادي الذي تمثل جزءاً منه، فإنها أصبحت الآن تعمل داخل إطار اجتماعي تستمد منه باستمرار شرعية سلطاتها بتأكيدها على أنها تبذل ما في وسعها لكي تتصرف بمسؤولية أمام جماهيرها المتنوعة والمتصارعة أحياناً.
ومن هنا يتضح أن الدور السياسي للمشروعات الصناعية يسبق دورها الاقتصادي أو يسير معه على خط متوازي لكي يدعمه ويدفعه، غير أن هذا لا يعني أن يقوم المشروع الاقتصادي بأنشطة لمواجهة مشكلة التلوث مثلاً تزيد على ما تفرضه عليه التشريعات التنظيمية، أو يحسن من سلعته بدون أن يتحمل المستهلك تكاليف ذلك، وإنما المقصود هنا هو مجرد إقناع جماهيره بأنه داخل حدود قدراته لا يتجاهل مصالحها، مهما كانت درجة التي يمكن أن تنظر بها هذه الجماهير إليه.
وهنا تلتقي النظرة الاقتصادية إلى الاتجاه نحو المسؤولية الاجتماعية المحدودة مع النظرة السياسية، مع إضافة الجهود التي يحاول بها المشروع اقناع جماهيره بأنشطته المحدودة، وهذا ما يعطي لهذا الاتجاه الطابع السياسي، وربما يكون في تشبيه المشروع الاقتصادي من هذه الزاوية برجل السياسة ما يوضح المقصود بهذه النظرة.
القيم الاجتماعية في المسؤولية الاجتماعية:
ويبرز أصحاب هذا الاتجاه هذه المسؤولية الاجتماعية المحدودة التي ينادون بها، بأن المشروعات الصناعية، وخاصة الكبيرة منها، هي المعبرة عن القيم الاجتماعية التي يعتنقها كل فرد في المجتمع بدرجات متفاوتة ولكنها كأفراد معنوية تختلف عن الأفراد العاديين في خضوعها لتنظيم مهني يفرض علها مسؤوليات لها الأولوية على سواها من المسؤوليات التي يلتزم بها الأفراد الماديين، فإذا تبين أن حياة هذه المشروعات الصناعية وازدهارها في أن يكون ولائها لتنظيمها المهني وتقاليدها الاقتصادية، فإن على المجتمع أن يضحى من أجل أن يحافظ على قيمة الاجتماعية بمحافظة على الأسس التي تقوم عليها حياة هذه المشروعات وتقدمها.
وبهذا التبرير يعود أصحاب هذا الاتجاه إلى ترديد نفس المخاوف التي أثارها أصحاب الاتجاه نحو التحرر من المسؤولية الاجتماعية، ولكن من زاويتين مختلفتين، فالاتجاه الأول أثار المخاوف من تضخم سلطة المشروعات والاتجاه الثاني أثار المخاوف من انهيار النظام الاجتماعي كله بسبب خروج هذه المشروعات الاقتصادية على تقاليدها ونظمها، لأنها هي الأجهزة الرئيسية المعبرة عن قيم هذا النظام الاجتماعي.
غير أنه من الواضح أن كل هذه التبريرات لا تستهدف إلا امتصاص ضغط الرأي العام على المشروعات الصناعية، وتبقى واحدة كافية لأن يتضاءل أمامها حجم هذا الاتجاه نحو المسؤولية الاجتماعية المحدودة، فالتطبيق العملي للمسؤولية الاجتماعية لم يخرج عن كونه تجربة واقعية لمسؤولية اجتماعية محدودة من حيث الحجم والتنوع، ومع ذلك حملت في طياتها كثيراً من السلبيات المؤثرة.
وهذه السلبيات تعني أن المشروعات الصناعية ليست مستعدة حتى الآن لأن تتحمل مسؤوليتها الاجتماعية باختيارها، مما يفتح الباب على مصراعيه للتدخل الحكومي كما حدث في كثير من الحالات كمشكلة تلوث البيئة مثلاً، ومعروف أن التدخل الحكومي المتزايد من أهم ما يثير مخاوف أنصار أيديولوجية الصناعة، ومن ثم فإن خوف المشروعات الصناعية من تزايد التدخل الحكومي سوف يدفعها، حرصاً على مصالحها الخاصة، إلى تقبل مسؤوليتها الاجتماعية كاملة.