نبذة عن دور الملك عبد العزيز في توحيد الدولة:
لقد كان استرداد الملك عبد العزيز لعاصمة الدولة السعودية هو البداية، ولم يكن انتصاره في الرياض سوى الخطوة الأولى في مواجهات امتدت كثير من السنين، وما كان في استطاعة أحد من الناس أنّ يخمن ما كان عليه الملك عبد العزيز في الوقت الذي تنازل والده عن إِمارة الرياض، وبهذا قد تنبهوا المحيطين به إِلى ظهور شخصاً قوياً يساومهم على ما تحت أيديهم من البلاد.
ولكنهم كانوا عاجزين عن تصور مدى التغيير الذي يمكن أن يحدثه هذا الشخص القوي في شبه الجزيرة العربية. لقد كانت شبه الجزيرة العربية مليئةً بأمراء يتقاتلون على الأرض وعلى الغنائم، ويتنافسون على كسب القوى الكبرى التي كانت تسيطر على شبه الجزيرة إلى صالحهم، ولم يرفع أحدهم راية الوحدة الدينة أو الوحدة السياسية، ولو فعل ذلك لم يصدقه الناس في شبه الجزيرة، وقد حدث صراع بين هؤلاء الأمراء. رأى الناس أنّ الأمراء لا ترتفع همـتهم عن الأرض التي تحت أقدامـهم، يبسطون عليها نفوذهم، يستفيدون من خيرها ويتحكمون في أهلها من خلال قوة السلاح والمال ومساندة القوى الأجنبية.
لم يكن في استطاعت الملك عبد العزيز بعد أنّ قام في استعادة الرياض أن يرفع راية أو يعلن شعار يعمل في ظله؛ لأنه لم يكن أحد يصدق أن تبقى نية أمير واضحه وأساسها المصلحة العامة والعمل من أجل التوحيد الخالص لله، والوحدة في السياسة، ولكن الملك عبد العزيز كان يتمثل الهدف الكبير، ويعمل من أجله دون أن يرفع راية أو يستخدم شعار، وكان الناس يتأملون الهدف كلما حقق الملك انتصاراً في التوحيد الديني، أو الوحدة السياسية. لقد كان منهج الملك في ذلك سابقاً لعصره في عشرات السنين، وسابقاً لخطط أعدائه، وكلما حقق الملك مزيد من النصر، اصبح بأمكان الناس من الرؤية الواضحة وفي ذلك الوقت بدأت الراية في الظهور.
كان الملك منذ أن قام في استعاد الرياض في عمل مستمر، وجهد متواصل لفترات طويلة، لم يقم الملك في الخلود إِلى الراحة أو اكتفائه في أرض يسيطر عليها مثل غيره من أمراء شبه الجزيرة. وحينما نشير إِلى إنجازات الملك ينبغي أن نتحدث على الفور أن هذه الإِنجازات لم تتحقق بالنصر في معركة أو بمساعدة أجنبي، ولكنها بفضل االله تحققت، ثم بجهد متواصل منه وجهاد قائم لكثير السنين، وكذلك الجهاد في ساحة المعركة والجهاد بكلمة الحق، وأيضاً الجهاد ضد والتخلف، وكانت هناك عقبات تواجه الملك في كثير من الأحيان من العدو والصديق على السواء.
من أهم الأمور التي كانت تواجه الملك عبد العزيز هي الأمور المتعلقة في الوحدة الإسلامية، واهتم الملك في قضية الإنسان المسلم العربي، إِنّ الأولويات هنا لا تعبر عن أهمية القضية أو عدم أهميتها، ولكنها تعبر بصدق عن الجهد الذي بذل من أجل تحقيقها، وتعبر كذلك عن شخصية الملك وعن فكره وعن مشاعره تجاه أمته العربية والإِسلامية. إنّ الأشخاص العظماء حين يختارون أهداف حياتهم ورسالتهم إلى شعبهم يعبرون عن أنفسهم بكل أمانة وصدق وما حققه الملك عبد العزيز في حياته يعبر عن خلقه وصفاته ولو وضعنا إِنجازاته التي حققها لأمته وشعبه في صفحة لظهرت شخصيته ونفسيته وفكره ومشاعره بها.
كان الملك رجل صالحاً ولد في منزل صالح، فكان من الطبيعي أن يمثل الدين في فكره ومشاعره. لقد تلقى الملك في صغره تعاليم العقيدة وأساس الشريعة وذلك اقتضى منه أن يصرف جهده وطاقاته جميعها في استعادة حكم آبائه وأجداده، وبسبب عمق مشاعره الدينية استطاع أن يفيد العقيدة والشريعة ومذهب السلف الصالح في فهم الإِسلام والحياة.
كان الملك ينتمي إِلى أسرة معروفة في عروبتها سكنت في شبه الجزيرة العربية وكانت دولتـها الأولى وقامت على يد الإِمام محمد بن سعود حاكم الدرعية. ويعرف الملك منذ صباه الباكر أن الإِمام سعود الكبير حفيد لمؤسس الدولة السعودية الأولى، قد استطاع أن يوحد في عهده في عام ١٢٢٩ هجري الموافق ١٨٠٣ ميلادي – ١٨١٤ ميلادي شبـه الجـزيرة، وسعود الكبير من أعظم رجال البيت السعودي، شملت الدولة السعودية في عهده بادية الشام، ومعظم شبه الجزيرة وامتدت الدولة في عهده إِلى شواطئ الفرات ومن الخليج إِلى البحر الأحمر.
وحدة الدولة في نظر الملك عبد العزيز:
كان الملك عبد العزيز يعلم أصول أسرته ودولتها التي اتسعت حتى وحدت أغلب شبه الجزيرة، ويذكر في الفخر أن والد ابيه الإمام فيصل بن تركي قد وحد أجزاء كبيرة منها، شملت منطقة نجد كلها، ومعظم منطقة الخليج، ويعرف أن هذه الوحدة تتطلب عزم وهمةً عاليةً، وكان الملك يملك المؤهلات والمزايا التي تجعل قضية الوحدة في نظره أملاً يسعى من أجل تحقيقه. لقد كانت قضية التوحيد هي قضية الدين عند الملك عبد العزيز، التوحيد الخالص لله بمعناه الشامل والكامل، كـما تلقاه وكما رسخ مفهومه الصحيح أسلافه الكبار حين أقاموا الدولة السعودية الأولى في القرن الثاني عشر على هدي القرآن الكريم وبقوة السلطان.
وكذلك كانت قضية الوحدة لديه جوهر العروبة وكذلك القضية السياسة عند الملك الوحدة التي حققها فعلاً أجداده من قبل ولكنها زالت بسبب النزاعات والحروب، وعادت الجزيرة العربية إِلى الانقسام كطبيعتها التي كانت عليها منذ قرون، وفي عصر الملك عبد العزيز توحدت معظم الجزيرة، وقامت فيها الدولة الموحدة، أرضاً وشعباً ونظاماً وحكماً.
إنّ هذه الوحدة تعد مثلاً نادراً في العصر الحديث كله أمام البلاد العربية والإسلامية. لقد تقسمت شبه الجزيرة قبل الملك عبد العزيز إلى قوى عديدة، وكانت القوى الأجنبية تباشر نفوذها وتعزز مصالحها فيها، ولم تكن هناك سلطة موحدة ولا شعب واحد، ولا دولة واحدة. لكن الملك عبد العزيز حقق ذلك كله بتوفيق االله، ثم بجهده، أميراً وسلطاناً وملكاً، وحقق بذلك أقـصى غاية أسلافه العظام، ووصل بجهده وجهاده إلى النهاية في آمالهم، وهي جعل المملكة العربية السعودية دولة موحدة، وشعباً واحداً، ينتمي لأمته الإِسلامية والعربية.
قام الملك عبد العزيز في العديد من المعارك وحروب لم تكن جديدة على منطقة نجد وما يجاورها، فقد كانت النزاعات الداخلية قائمة، والحكام ومشايخ القبائل غير مجتمعين. فكانت الانتماءات تتغير، والحدود التي يتم تحديدها من المعارك تزول بتغيرها. ولقد ورث الملك عبد العزيز عن أسلافه عبرة التجارب، وكانت له تجاربه التي حالفه فيها توفـيق االله وكان له من قوة الشخصية وذكاء الفطرة، ما يجعل همته تعلو على مطالب الأمراء في عصره في نزاعهم وقتتالهم على مساحة من الأرض، يوسـعون أو يزيدون من غنائمـهم، كـان فكر الملك عبد العزيز، وطموحه يجاوز ما عليه الأمراء ورؤساء القبائل، وكانت نظرته أعمق وأدق إِلى شبه الجزيرة كلها، واتسعت هذه النظرة؛ لتشمل شبه الجزيرة.
في هذه الفترة وبعد أن حقق عبد العزيز ما ييطمح إِليه بوصفه أميراً من آل سعود بدأ يمد بصره إِلى آفاق أبعد، وآمال أرحب، ومصالح أكبر، ولم يكن ملائماً لشخصيته الفريدة، وذكائه الفطري، وآماله الإِسلامية والعربية أن يكتفي بسلطانه على جانب ولو كانت كبيرة من أرض شبه الجزيرة، ولقد فرضت شخصيته وطموحه ونجاحه، أن يفكر في الدولة الموحدة في شبه الجزيرة العربية، ولم يكن الأمر قاصراً على الآمال والطموحات، ولا التفكير والتدبير. لقد كان توحيدها في الظروف التي تسود
العصر، وفي عالم يسوده الاضطراب مع خصوم متعددين، ومع قوى عالمية تتربص بالمنطقة كلها، ومع قلة العدة لاسيما من السلاح، ومع انفتاح أبواب الفتن في داخل شبه الجزيرة العربية، كان التفكير وحده في توحيد الجزيرة العربية كفيلاً بأن يزرع اليأس في قلب من يسعى إِليه.
ومن هنا نشير إلى ما تميز به الملك عبد العزيز من أفكار جمعت بين الافتخار في الإِسلام والمسلمين والثقة بالله، ومن عزم عالي لا يقترب منه الصعاب، ومن شجاعة في دخول المعارك، ومن حكمة في التعامل مع الخصوم، والتعامل مع ذوي الأهواء وأهل الفتن من حوله، فلم يكن طريق التوحيد طريقه سهلاً، ولم يكن يعتمد على دعوة تبثها أجهزة الإِعلام القوية القادرة على جمع الناس حولها، لكي يكون تحقيقها ميسراً، بل كان الطريق مليئاً بالمخاطر، يتربص به كل من تهدد وحدة شبه الجزيرة العربية إِمارته أو نفوذه أو مصالحه أو طموحه أو مكاسبه، فقد كان الانقسام والنزاع بين القبائل، ووجود الأجنبي مفيداً للبعض، وحامي لمصالحهم ومحققا لأطماعهم.
في ذلك الزمن دخل الملك عبد العزيز آل سعود في العديد من المعارك المتعلقة في أمور السياسة، ومع كل الأعداء في الداخل من المملكة والخارج. فأن ما أشار إلى بطولته وحكمته وقدراته ومواهبه التي يتمتع بها من الواقع الذي فرضه على الأرض، ثم شهادة أهل الحق له بما حققه للعرب وللمسلمين.