التشييد الاجتماعي للأفكار عند ماري دوغلاس في علم الاجتماع

اقرأ في هذا المقال


التشييد الاجتماعي للأفكار عند ماري دوغلاس في علم الاجتماع:

تعتبر ماري دوغلاس وجهاً من الوجوه الأكثر شهرة في الانثروبولوجيا الاجتماعية، ويوصف مسارها الفكري بأنّه لا تشوبه شائبة، فخلال الخمسينيات استحقت على عملها الإثنوغرافي عن جماعة “لِل les Lele” في الكونغو تقديراً مهنياً، ومنصباً في أكسفورد، وخلال الستينات جعلها كتابها عن المحظورات في سفر اللاويين، تدخل في حلقة المؤافين الذين لا نذكر فقط أدواتهم بل أفكارهم، فقبلها ما من أحد كان قد أظهر في نص من الكتاب المقدس صرامة التحليل البينوي، لقد أصبح كتابها من الكلاسيكيات.

وأخيراً في منعطف الثمانينيات نقلت ماري دوغلاس نظرتها البعيدة صوب المجتمعات الحديثة، وركزت تأملاتها على الصلة التي تقيمها مجتمعاتنا مع الخطر والاستهلاك، وبالتالي فإنّ هذه الترجمة لـ “كيف تفكر المؤسّسات” لماري دوغلاس حدث نادر وله قصة، فقد جمعت هذا العمل عام 1986 بدءاً من سلسلة من المؤتمرات في الولايات المتحدة.

ففي البداية، يتنازع النظرية السوسيولوجية حقلان، هناك من جهة التفسير عن طريق الفرد، بالأحرى العقلاني، الذي يعجز عن أن يفهم جيداً الجوانب غير المغرضة النزيهة، أو القهرية للحياة الاجتماعية، ومن جهة أخرى هناك العقل الكلي، الذي ينسب للتجمعات البشرية خصائص فكرية وقصدية شبه أنتروبومورفية (التشبيه بالبشر)، بموجبها تمتلك المجتمعات دماغاً يحكم دماغ أعضائها، هذه الأطروحة الأخرى تُنسب في الغالب وللتبسيط إلى دور كايم.

قبل كل شيء تخلصت دوغلاس من الفردانية، ليس بالإمكان كما فعل مانكور أولسن، تقسيم المجتمعات البشرية إلى نطاقين أو جنسين، الأول انفعالي (وكلي)، والثاني عقلاني (وفرداني)، حيث كافة الفاعلين البشريين يمتلكون في آن واحد، كما توضح دوغلاس، علاقة محسوبة بشكل دقيق مع الخير العام وكذلك فكرة معينة اعتباطية في الظاهر، عمّا هو صحيح، وبالتالي فإنّ كافة الجماعات البشرية التي تهم السوسيولوجيا هي تجمعات شرعية، وهي التي نسميها المؤسّسات.

إنّ التحليل الوظيفي ليس حشواً خالصاً، فهو ليس ممتنعاً على التطبيق مثلما يؤكّد الفيلسوف جون إلستر، ولا يختصر إلى الحجة الواهية التي بحسبها تقوم المجتمعات بإنتاج التماسك، فهو يستطيع أن يتفهم حيثية أنّ السببيات المخفية توقع الأفراد في مطبات وتورطهم في مسالك لم يتوقعوها، “تلكم هي حالة تأثيرات التوليف” لروبيرت ميرتون.

ترى ماري دوغلاس أنّ دور كايم قد سلك هنا الطريق المختصر، ونسي أنّه في الغالب يكون الأفراد مجبرين، ﻷنّهم يؤمنون حقاً وليس ﻷنّهم يستمتعون، بعد ذلك تمرر عن طريق دور كايم التصنيفات البدائية كي تطور الحجة الرئيسية لبحثها، المجتمعات ليست تجمعات مرتبطة من حيث الأولوية عن طريق مؤثرات إنّما عن طريق أُطر من الفكر المشترك، من المناسب إذن البحث عن وصف مناسب للتأثيرات الإدراكية للمؤسسات، أعني عن نظرية للمعارف الشرعية.

كيف نثبت أنّ معرفة ما هي تشييد اجتماعي؟

يشتمل برهان ماري دوغلاس على عدّة عناصر يعرض كل واحد منها خصيصة اجتماعية للمعارف الاجتماعية، انتقائيتها، وظيفتها، وشرعيتها، لماذا تنسى جماعة النوير في السودان أسلافها في نهاية الجيل الخامس؟ عندهم كل التزامات الماشية مشمولة في هذا الفاصل الزمني السلالي، فمن أجل الزواج، من المفيد تذكر الصلات التي يعقدونها فيه، ليس أكثر من ذلك بالتأكيد يبدو الأسلاف ومعرفتهم بهم ونسيانهم لهم إذن كأسباب ظاهرة لمنظومة ذات عواقب بشرية واجتماعية.

من المدهش أن نلاحظ أنّ بعض الأفكار أو النظريات كانت قد تمت صياغتها مسبقاً، نظرية كوندورسه مثلاً عثر عليها خلال الخمسينيات الاقتصادي كينيث آرو، فلكي تؤخذ الأفكار على أنها صحيحة، لا بدّ من أن تكون ذات فائدة للمجتمع الذي يتلقاها، وباختصار فإنّ دوغلاس بإشارتها إلى الروابط الوظيفية التي يمكن أن توجد بين عالم الأفكار وعالم المصالح الاجتماعية، تبين وجود معنى للرغبة بوضع قوة المؤسّسات البشرية ضمن المعارف التي تؤطر محاججات المؤسّسة، هي ذاكرة معلومة تسمح لكل واحد أن يمارس عقلانيته كفرد.

تأسف ماري دوغلاس في مقدمتها أنّها لم تكتبه قبل البقية، إنّها النظرية التي حلمت أن تكون بحوزتها قبل أن تذهب لرؤية جماعة “لِل” في الكونغو، لكن من الواضح أنه عام 1950 ما من أحد كان قادراً على وضع توليف بهذه الدقة لنظرية الخيار العقلاني والسوسيولوجيا الكلية، لذلك يعتبر موضوع ذات أهمية، ﻷنّه تظهر فيه معرفة جيدة بحالة هذا التخصص، والبعد الزمني الذي تؤكد ماري عليه دوماً (دور كايم نفسه الذي أعيد تأكيد أطروحاته، قد يكون أيضاً نتاج زمنه).


شارك المقالة: