اقرأ في هذا المقال
- التعريف الفوكالتي للسلطة السياسية في علم الاجتماع
- مؤشرات السلطة لدى ميشيل فوكو في علم الاجتماع السياسي
- المجال المعرفي وإنتاجية السلطة لدى ميشيل فوكو
يعد ما قدمه ميشيل فوكو من تعريف للسلطة الإسهام التنظيري الأوحد الذي وجه الأنظار لضرورة إعادة النظر في علم الاجتماع السياسي المعاصر، على أن فوكوه نفسه يعاني من تناقض في علاقته بعلم الاجتماع السياسي المعاصر، ففي حين تمثل آراؤه وكتاباته حجر الزاوية في تطوره، ولا ينكر أحد أنشطته السياسية، خاصة ما يتعلق بقضايا حقوق السجناء والمثليين، ينفي هو عن نفسه اهتمامه بالسياسة، مقراً بميوله نحو القيم التي يرى أنها نابعة من ذات المرء.
التعريف الفوكالتي للسلطة السياسية في علم الاجتماع
إن هذه النزعة القيمية الأخلاقية تتصل برفضه لمبدأ التنظير المنظم، وهو ما يبرر عزوفه عن رسم مخطط للمؤسسات الاجتماعية والسياسية يساعد على استيعاب السياسة المعاصرة، وكل ما توعز به كتاباته هو تحليل مظاهر السلطة وممارستها التي قد تستغل في أماكن غير متوقعة، بأسلوب غير متوقع.
نستهل هذا القسم بإطلالة على مؤشرات السلطة عند ميشيل فوكو، ثم نعرج بعدها على مفهوم الحكومية التي تمخض عن كتاباته الأخيرة، ورغم الأثر البارز، والأهمية القصوى لمفهوم الحكومية في علم الاجتماع المعاصر، إلا أنه لا يمثل كل ما كان يرمى إليه فوكوه، ﻷن تأثيره كان أشمل وأعمق من ذلك بكثير.
مؤشرات السلطة لدى ميشيل فوكو في علم الاجتماع السياسي
لا يدّعي ميشيل فوكو أنه مؤسس لنظرية جديدة للسلطة، بل يقول بضرورة تحليل مفهوم السلطة وذلك برده للعمليات الداخلة فيه، واقتفاء الآثار المترتبة على تفعيله، الأمر الذي يجعل من العسير إن لم يكن مستحيلاً تحديده بمجموعة من المفاهيم، ومن ثم الشروع في معرفة مدى انطباقها على مصطلح السلطة من عدمه مما حدا به لتبني فكرة مؤشرات السلطة والتي تنتهج في تعريف السلطة تحديد ملامح النماذج والأمثلة السلطوية.
يرى ميشيل فوكو أن السلطة في المقام الأول عملية إنتاجية لا تتوافق، بأي حال من الأحوال، مع ما أسماه بالأنموذج القانوني الفوقي، والذي يحيل السلطة إلى حق بديهي مكتسب للدولة، أو بالأحرى حق يفرض بالقانون بغرض تفعيل القواعد المنظمة للمجتمع، وفقاً لهذه النظرية يرى الليبراليون أن السلطة تستلزم وجود محظورات نص عليها العقد القانوني الذي ارتضاه أفراد المجتمع.
في حين يرى أصحاب الاتجاه الراديكالي المتطرف في السلطة تجسيداً لتلك السياسات والتشريعات التي تضمن المحافظة على التقسيم الطبقي للمجتمع، بما في ذلك هيمنة إحدى الطبقات، مما يضفي على السلطة طابعاً سلبياً قمعياً مناهضاً ﻷي حراك مجتمعي.
ويؤكد ميشيل فوكو على أن النظر للسلطة من هذا المنظور يغفل دورها الفاعل في المؤسسات المجتمعية، وتواجدها الجدّي أي حوار مجتمعي، لذلك نجده مهتماً اهتمام بتحليل الممارسات المجتمعية السلطوية عن طريق اقتفاء آثارها، فتكون السلطة بذلك مفهوماً مرناً قابلاً للتعديل بدلاً من أن يتمثل في قالب جامد مرئي.
حيث تعمل السلطة على تشكيل أنماط ﻷجساد وعقول تغاير تماماً ما كانت ترمي إليه النظرية الفوقية القديمة، وتقوم الممارسات السلطوية بالدرجة الأولى على التعددية، وعدم احتكارها من قبل قطب سياسي وحيد، أو نخبة أو حتى مشروع فردي شامل.
لكن لا ينبغي أن يفهم من ذلك أن النظر إلى السلطة على أنها عملية إنتاجية أمر محمود، بل إن الناظر المتمعن في أغلب أعمال فوكو يجده دائم النقد للممارسات السلطوية في المجتمع باعتبارها نتاج لعلاقات وكيانات اجتماعية منظمة ومنضبطة يجب مقاومتها.
المجال المعرفي وإنتاجية السلطة لدى ميشيل فوكو
إن المجال المعرفي هو أكثر المجالات دلالة على إنتاجية السلطة لدى فوكوه، فالمعرفة وخاصة العلوم الاجتماعية، تنصب حول إنتاج أجساد منصاعة وعقول خاضعة، لذا صاغ مصطلح الخطاب للإشارة لتلك الأنظمة المعرفية شبه العلمية، وبذلك لا تعني المعرفة بوصفها خطاباً لمعرفة العالم الحقيقي الواقعي، سابق الوجود على تلمك المعرفة، رغم ادعائها تقديم الواقع كما هو دون المساس به، أو التعديل عليه، إلا الخطابات أي الأنظمة المعرفية سابقة الماهية هي ما يشكّل الواقع من خلال ما تقدمه من معارف محددة سلفاً عنه.
وتتميز المعرفة عن غيرها من طرق إدراك العالم بأنها تنطوي على ممارسات سلطوية فتدعي بذلك أنها المعرفة الحقة بالعالم الواقعي؛ ﻷن المعرفة كما يراها فوكوه ليست إلا مجموعة العبارات والقواعد اللفظية الحاكمة للمؤسسات، وفقاً لعدد من الممارسات والاجراءات التي يفرضها من يضطلعون بالشأن التنظيمي في تلك المؤسسات.
فتصبح تلك العبارات حقائق راسخة وقواعد بديهية، لذا يذهب فوكو في تحليل الخطاب إلى القول بضرورة الوقوف على الأساليب التي تتمخض عنها المعرفة الجديدة، وتحديد الظروف الخطابية وغير الخطابية، وبالأخص الآثار السلطوية الناتجة عنها.
يتعارض تحليل ميشيل فوكو للمعرفة على أنها مؤسسية سلطوية مع ادعاء العلوم الاجتماعية تبنيها لموقف نزيه ومحايد، يروم التقدم الإنساني فحسب، كما يخالف هذا التحليل أيضاً النظرة المتطرفة القائلة بأن المعرفة الناتجة عن مؤسسات النخبة هي معرفة مضللة بطبيعتها، تخفي العلاقات الحقيقية للسلطة، فالخطابات لدى فوكوه لا تخفي السلطة فحسب، بل وتساهم في دعم ممارستها ﻹنتاج العلاقات الاجتماعية القائمة على وجود مصدر سلطوي يخضع له الآخرون.
تنتج السلطة أفراداً يمارسون أحد دورين لا ثالث لهما، إما الحاكم أو المحكوم، ولقد أورد فوكو في مؤلفه النظام والعقاب وصفاً للأجساد المنصاعة الناتجة عن تطبيق عدد من الممارسات السلطوية التي يفرضها من يضطلعون بالشأن التنظيمي المراقبي، والتي ترمي لتدريب الأفراد على السلوك المتوائم مع تلك الممارسات، ليتم بذلك تصنيفهم إلى أسوياء أو خارجين على القانون، ويتجسد ذلك بأشكال شتى في كافة المؤسسات الاجتماعية، العسكري منها أو الصناعي، ومروراً بالمؤسسات التعليمية والصحية وغيرها من مؤسسات المجتمع.
ويعتمد فوكو في المجلد الأول من كتابه تاريخ النزعة الجنسية، إلى تحليل عملية إنتاج الأجساد المواجهة جنسياً من خلال ممارسات الاعتراف، فبغض النظر عن الجانب الفطري في تطور تلك النزعة، إلا أن الباحث الأمين في الحقب التاريخية المتعاقبة سيجد دلائل شتى على توجيه وإظهار النزعة الجنسية من خلال ما ألفناه عندنا في بلاد الغرب من تدريب أنفسنا على التعبير عن رغباتنا بطرق محددة.
تمثلت قديماً في اعترافات الأفراد بخطاياهم داخل الكنائس، وتتجسد الآن في المجتمعات المعاصرة في البيئات التي تتوسل بالأساليب العلاجية، سواء دور العلاج النفسي، أو مراكز الإرشاد الاجتماعي، لذلك نجد فوكو يخلص من ذلك كله إلى القول بأن الجسد ما هو إلا صنعة تاريخية، أي أن قدراته محددة تاريخياً ومقبولة وفق ممارسات سلطوية.
كما يرى ميشيل فوكو أن النزعة الذاتية في الحكم على الأشياء هي إحدى النتائج البارزة للسلطة، مغايراً بذلك الاتجاه الإنساني الذي ساد أوساط المثقفين في العالم الغربي حديثاً، والقائل بأن الذات الفردية هي مصدر المعاني المقصودة، لما تتمتع به من تفرد ذاتي، ووحدة بنيوية ومقدرة على التعقل.