التوزيع في اقتصاديات الإعاشة في الأنثروبولوجيا الاقتصادية

اقرأ في هذا المقال


تميل أنماط الثقافة، التي تحكم عملية توزيع السلع والخدمات في المجتمعات الإنسانية شأنها في ذلك شأن أنماط الثقافة التي توجه تقسيم العمل إلى التأثر بمدى قدرة المجتمع على إنتاج فائض يمكن تبادله.

التوزيع في اقتصاديات الإعاشة في الأنثروبولوجيا الاقتصادية:

في المجتمعات التي لا تقدم سوى فائض ضئيل أو التي لا تقدم فائضاً على الإطلاق من وجهة نظر الأنثروبولوجيا الاقتصادية، نجد أساليب توزيع الموارد والخدمات تتصف بالبساطة في الوحدة التي تقدم المواد والخدمات التي تستهلكها. وحينما يصبح فائض الإنتاج أمراً ممكناً، وحينما يسمح هذا الإنتاج بتقسيم عمل حقيقي، وتظهر تنتشر أساليب أكثر دقة للتوزيع كما هي الحال بالنسبة للأسواق.

وبإمكاننا أحذ شعب الهوبي كمثال لتوضيح أول هذه الأشكال. فالتكنولوجيا عند شعب الهوبي كما شاهدنا، وبسبب تواجدها في مكان ليست غني جداً في موارده الذي لا يسهم عادة في ظهور فائض ضئيل (هذا إن وجد فائض أصلاً) يمكن تبادله.

وتمثل الأسرة النووية في شعب الهوبي (أي الزوج وزوجته وأطفالهما) وحدة الإنتاج والاستهلاك الأساسية. وتعيش الأسرة في مسكن أقامه أعضاؤها، وتتناول الطعام الذي يتحقق بفضل عمل أعضائها. فضلاً عن أنها تقوم بصنع ملابسها وتشكيل كل الأدوات والمصنوعات المادية الضرورية لممارسة نشاطاتها الإنتاجية. ولا يمتلك أي فرد الأرض التي تستخدم في أغراض الصيد وجمع الطعام، كما أن هناك مساحة كبيرة يستطيع أن يمارس فيها الجميع حقوقهم دون إنكار حقوق الآخرين.

أما الأرض الزراعية فتمتلكها العشائر الأمومية (أي جماعات الأسر النووية التي ترتبط من خلال الأم)، كما توزع بالتساوي على كل فرد من أفرادها، حيث يرأس كل هؤلاء الأفراد أسرة نووية. ولا نجد هنا مع ذلك منافسة حادة حول الأراضي الزراعية؛ ذلك لأن كمية العرض تفوق كمية الطلب.

وحينما لا تستطيع الأسرة إعالة نفسها، وذلك بسبب فشل المحصول أو عدم النجاح فى الصيد أو الجمع فإنها تحصل على هدايا من الطعام والحاجات الأخرى من الأسر القريبة منها. وهذا يفرض على الأسرة التي تتلقى هذه الهدايا التزاماً هو أن تقدم للأسر الأخرى مساعدة مماثلة حينما يستدعي الأمر ذلك.

ولا تستطيع أية أسرة تخزين الطعام، أو الحاجات الأخرى، تكون الأسر الأخرى بحاجة إليها؛ ذلك لأن مثل هذا التصرف يعد انتهاكاً لكل القواعد التي تحكم شعب الهوبى. ومن بين المثاليات العليا عند شعب الهوبي نجد الكرم “وطيبة القلب” أما البخل فيعد إثماً يستوجب الموت.

وكنتيجة لذلك نجد قرية الهوبي التي تمثل وحدة سياسية مستقلة مؤلفة من أسر وعشائر تحقق توزيعاً داخلياً لمعظم السلع التي تنتجها دون أي نظام داخلي للتسويق أو التجارة. وقد يطلق على أساليب التوزيع هذه أساليب تبادلية.

إلا أن هناك مشكلات توزيع أخرى لدى شعب الهوبى. فعلى الرغم أن الأسرة تمثل وحدة إنتاج واستهلاك أساسية، إلا أن هناك فروقاً في العمر والنوع فيما يتعلق بالنشاطات الإنتاجية، كما أن منتجات العمل لا تقتسم بالتساوي عادة. كذلك فإن الصياد في شعب الهوبى قد يهدي جزءاً من فريسته إلى والديه، أو أخته الكبرى التي تعيش في مسكن آخر.

أساليب التوزيع التبادلية في الأنثروبولوجيا الاقتصادية:

وتنتشر أساليب التوزيع التبادلية انتشاراً واسعاً، كما أنها قد توجد في أنساق اقتصادية أكثر تعقيداً. فشعب الزابوتيك Zapotec في أواكساكا بالمكسيك والذي اشتهر بالتجارة والأسواق يستعين أيضاً بأساليب التبادل. ففي المناسبات الهامة كالزواج، أو مواجهة الالتزامات التي تفرضها الطقوس قد يلتمس الشخص المساعدة من الأقارب والأصدقاء والجيران.

وقد تتخذ هذه المساعدة شكل النقود، أو المواد الغذائية وهذا هو الأمر الأكثر شيوعاً، أو الوسائل الكحولية أو المشروبات الخفيفة مؤخراً. ويتوقع المانح عموماً أن ترد إليه هذه الأشياء في مناسبة تالية، حينما يواجه التزاماً خاصاً يكلفه الكثير إذا ما حاول تغطيته بمفرده. ولدى كل من المتلقي والمانح سجلات دقيقة، كما أن الأخير (المانح) يتوقع تلقي نفس السلع تماماً في مقابل ما قدمه.

فإذا ما قدم شخص ديكاً رومياً زنته ١٥رطلاً، فإنه يتوقع في مقابل ذلك تلقي ديكاً رومي بنفس الوزن. وإذا ما كان هناك تفاوت في الوزن، فإن الفرق قد يعوض بسلع أخرى أو بنقود، وهذا هو الأمر الأكثر شيوعاً.

ويمكن اعتبار هذه الأشكال من التبادل أمثلة على التقايض. ومع ذلك فهناك أفراد آخرون داخل المجتمع لا تربطهم سوى صلات اجتماعية ضعيفة ببقية أفراد المجتمع، لكنهم قد يقدمون هدايا لا ترد بمثلها. وتنتشر هذه الظاهرة حينما يعكف شخص على برنامج لخلق أكبر عدد ممكن من الالتزامات التي يجب عليه تأديتها، وذلك توقعاً لنفقات الزفاف، أو الطقوس التي يتعين عليه تأديتها.

وفي هذه الحالة نجد هذا الشخص يعتبر ذلك شكلاً من التوفير بدون فوائد، كما أن بالإمكان تحليل هذا التعامل في ضوء معايير اقتصادية صورية. ومن الأمور التي تزيد ذلك إيضاحاً أن نجد لدى شعب الزابوتيك أشكالاً أخرى من السلف أو الديون. فالأفراد الذين يواجهون نقصاً في الطعام، أو الذين يواجهون حالة طوارئ يتعين عليهم مواجهتها، قد يحصلون على الطعام أو يقترضون النقود من الأصدقاء أو الجيران دون أن يدفعوا فوائد على ذلك.

وفضلاً عن ذلك فإن أفراد شعب الزابوتيك يميزون بوضوح بين الهدايا والتبادل والتقايض الصوري. وحتى في ظل الإطار الصوري، فإن الأشخاص الذين يقدمون صندوقاً من المشروبات الخفيفة قد يؤكدون أنهم يقومون بصنع هدية، وأنهم لا يتوقعون مقابلاً رسمياً لها. كذلك فإن الهدايا قد تقدم في مناسبات أخرى. ولا يتوقع رد الهدايا بطريقة رسمية، على الرغم من توقع ردها في المناسبات كما هي الحال بالنسبة لنظام الهدايا في بعض المجتمعات.

ومع ذلك فإن هذا المقابل ليس نوعياً عادة، كما لا يتوقع أن يكون متكافئاً بدقة مع الهدايا. ومن المواضيع التي يضمها رد الهدايا: مواضيع الصداقة، وأمور المساعدة العارضة، وأيضاً المعلومات المفيدة، ودعم مواقف الصراع الاجتماعي. وفضلاً عن ذلك فإن التحليل المتعمق يوضح أن ضروب التبادل الرسمي لا تتطلب في كثير من الحالات علاقات اجتماعية مستمرة. وحينما يدخل أحد الغرباء في علاقة تبادلية رسمية فإن علاقاته الاجتماعية تتوقف بمجرد أن ترد إليه الهدايا.

ومن الواضح من ناحية أخرى أن الهدايا تعمل على النهوض بالعلاقات الاجتماعية الدائمة. وفي الحالة الأولى نجد المعاملات الاقتصادية تستخدم لتيسير أداء الوظائف الاجتماعية التي تسهم في دعم التضامن. أما أن نربط هذه الأهداف الاجتماعية بشكل أو نمط التعامل الاقتصادي فهذا خطأ في حد ذاته، ذلك أن المعاملات الاقتصادية يمكن تحليلها مستقلة عن الإطار الاجتماعي لكن الهدايا من ناحية أخرى تسهم في تحقيق أهداف اجتماعية خالصة، ومن ثم فإن التحليل الاقتصادي الخالص للهدايا يصبح غير كاف.

اقتصاديات الإعاشة في الأنثروبولوجيا الاقتصادية:

وفي بعض الأحيان توصف اقتصاديات الإعاشة التي يتخذ فيها التوزيع شكلاً تبادلياً أساساً بأنها ضرب من “الشيوعية البدائية” في الأنثروبولوجيا الاقتصادية؛ ذلك لأن المجتمعات المحلية التي تعيش في ظل هذه الاقتصاديات لا تعرف تقسيم العمل الحقيقى والتجارة الداخلية، كما أنه ليس لديها نظام لتوزيع سلعها وخدماتها.

إلا أن مصطلح الشيوعية البدائية ينطوي على تضليل، من حيث أنه يربط ربطاً خاطئاً بالشيوعية الحديثة التي ظهرت إلى حيز الوجود كنظرية سياسية اقتصادية في الحكم بفضل الثورة الصناعية وحدها. والواقع أن جوهر نظام التوزيع عند الهوبي مثلاً لا يكمن في ملامح التقسيم، ولكنه يتمثل في الحقيقة التي مفادها: أن كل أسرة تستطيع إعالة نفسها؛ لأنها تمتلك من خلال أعضائها كل الأساليب الإنتاجية المتاحة للمجتمع ككل.

أما نمط التقسيم وقت الحاجة عند شعب الهوبي فهو يمثل، فقط، شكلاً من أشكال التأمين ضد الإخفاق في الحصول على الطعام اللازم، ولا يتضمن أى اتساق سياسي مع الشيوعية الحديثة. وعلى الرغم من أن العشائر تمتلك معظم الأراضي الزراعية، إلا أن هذه الأراضي موزعة على الأسر التي تقوم بفلاحتها، فضلاً عن إشرافها على توزيع المنتج، أما أدوات الإنتاج فهي مملوكة ملكية فردية.

ميكانيزمات إعادة التوزيع في مجتمعات الإعاشة في الأنثروبولوجيا الاقتصادية:

توجد ميكانيزمات إعادة التوزيع في بعض مجتمعات الإعاشة الأكثر تقدماً، والتي تطبق بعض أشكال تخصص العمل. ففى كثير من المجتمعات المحلية الهندية بأمريكا اللاتينية لا نجد سوى قدر ضئيل من تقسيم العمل الحقيقي الداخلي. ومع ذلك نجد الأسرة الكبيرة التي تعمل بالصناعة بدرجة أكبر أو تلك التي تتمتع بملكية أراضي جيدة للزراعة، وتربي الحيونات قد تحقق فائضاً ملحوظاً إذا ما قورنت بالأسر المجاورة لها.

وفي هذه المجتمعات المحلية نظام الأعياد الدينية الشعبية التي يطلق عليها المايوردوميا أو الكارجو، وفيها نجد كميات كبيرة من الطعام والشراب، وعادة الترفيه للمجتمع المحلي، فضلاً عن أداء الشعائر الدينية. ودائما ما تتكفل العائلات التي لديها فائض اقتصادي بإقامة هذه الأعياد. أما نفقات هذه الأعياد فعادة ما تكون مكلفة جداً. بحيث لا تستنزف الفائض فقط، بل تأتي غالباً على ما يقدم من التزامات تبادلية.

المصدر: محمد الجوهري، مقدمة في دراسة الأنثروبولوجيا، 2007محمد الجوهري، الأنثروبولوجيا الاجتماعية، 2004ابراهيم رزقانة، الأنثروبولوجيا، 1964كاظم سعد الدين، الأنثروبولوجيا المفهوم والتاريخ، 2010


شارك المقالة: