تأسيس الدولة البويهية:
تكون العصر العباسي الثالث بشكل من أشكال المُناهضة للنفوذ التركي الذي تمكن من التحكم على أسهم الخلافة العباسية في العصر العباسي الثاني. وتمثلت الحركة فارسية زيدية، لإسترجاع الذي يُعتبر تراجع خلال القرن الثالث الهجري. واختلف هذا العصر في مظاهره عن العصر العباسي الثاني من حيث التركيز على المشرق.
تم ظهور بني بويه على حلبة الأنشطة في أوائل القرن الرابع الهجري، وقاموا بتأسيس حركات انفصالية في فارس والأهواز وكرمان والري وأصفهان وهمذان. ونشروا سلطتهم الفعلية على العراق، مما أدَّى إلى مشاركتهم الخلافة العباسية في حكمه. وعظم نفوذ هذه الأسرة حتى سُمِيَ باسمها عصر من عصور الخلافة العباسية.
هاجرت هذه الأسرة من الشمال، من بلاد الديلم المنطقة المجاورة لبحر قزوين، وعُرفت على يد أخيهم الأكبر من الإخوة البويهيين الثلاثة، وهو علي بن شجاع بن بويه، الذي أعطاه مرداويج الزياري، ولاية بلاد الكرخ. ويبدو أن عليّاً كانت تُراوده نزعات تتعدى الاستقلالية إلى التوسع على حساب جيرانه بالإضافة إلى الطموح السياسي الذي تحقق له سريعاً.
حيث ما مكث حتى أن أضحى صاحب شوكة في هذه النواحي، ومال الناس بصفاء سياسته، واستطاع بفضل بقدراته العسكرية، والإدارية، وكرمه، وحسن معاملته لأتباعه؛ من بناء جيش قوي، انتزع به معظم بلاد فارس، في خلال فترة قصيرة. واتخذ مدينة شيراز قاعدة لحكمه.
كان علي يستولي على هذه البلاد باسم الخليفة العباسي ظاهراً، لكن في باطن الأمر كان يهدف إلى إقامة دولة خاصة به مُستغلاً ضعف الخلافة السياسي والعسكري وعجزها عن التدخل في هذه المناطق لترتيب أوضاعها. ثم أرسل إلى الخليفة الراضي يطلب منه الاعتراف بسلطانه وهذا طبيعي، فإنه كان عليه أن يأمن جانب الخلافة لأنهُ سيطر على إحدى ولاياتها رغم إرادتها، فأراد أن يكسب حكمه صفة شرعية، وقد تم له ما أراد.
حيث اتبع مرداويج على القيام ما بدأ به، فعمل على كسب رضاه هو أيضاً، فعرض عليه أن يدخل في طاعته، وأن يكون ما بيده من بلاد تابعة له يخطب له فيها. وبالطبع رحب مرداويج بهذا العرض، فقلَّده أرزجان، وأرسل علي إليه أخاه حَسَن رهينة، ليكفل له حُسنَ التنفيذ.
الأحداث التي جرت في عهد البويهيين:
أما من حيث العلاقة التي كانت بينه وبين الخلافة العباسية في هذه الفترة، فقد تكونت بمقتضى التقليد الذي أرسله الخليفة، لكن الخلافة حاولت أن تسترجع هيبتها، فأرسلت جيشاً بلغ مشارف فارس، لكنه رد على أعقابه بعد وقعة أرّجان في عام (323 هجري)/(935 ميلادي)، وثبّت علي بن بويه أقدامه في المنطقة، وأقام دولته فيها.
ويبدو أن الظروف السياسية كانت تعمل لمصلحة البويهيين ففي عام (323 هجري)/(935 ميلادي)، قُتِلَ مرداويج، فاستفاد على من هذه الفرصة، وسيطر على بلاد الجبل التي كانت تحت سيادة وشمكير الزياري شقيق مرداويج . وأرسل أخاه حسن, الذي فر بعد مقتل مرداويج، إلى عراق العجم، فسيطر على أصفهان والري وهمذان والكَرَج وبقية بلاد العراق العجمي، واتخذ أبا الفضل بن العميد وزيراً له.
أرتاءَ علي بن بويه بعد ذلك إلى تحسين حدود الأقاليم التي استولى عليها وتطلبت سياسته ونزعه على مناطق كرمان والأهواز قبل الوصول إلى العراق الذي كان أولى أولوياته، على اعتبار أن هذين الإقليمين يُشكلان ممراً طبيعياً لأي غزو مُحتمل لإقليم فارس إن من ناحية الشرق أو من ناحية الشمال. لذلك، أرسل أخاه أحمد على رأس قوة عسكرية، فاستولى على كرمان في عام (324 هجري)/(936 ميلادي)، بعد معركة القنطرة، وأضافها إلى أملاك آل بويه، ثم سيطر على الأهواز.
لم تتوقف الدولة العباسية مكتوفة اليدين بسبب هذه الأحداث السياسية والعسكرية. لذلك استغلوا فرصة هذا الاضطهاد البويهي الزياري وحاولت استرجاع مناطق الأهواز، فبعثوا قواتاً برئاسة بجكم لاستردادها وطرد البويهيين منها. ووقف هذا عند حدود الأهواز القريبة من العراق مُنتهزاً الفرصة للتدخل . لكن القائد العباسي اضطر إلى التراجع تحت ضغط الأحداث العسكرية بعدما مالت كفة البويهيين للرجحان.
وأصبحت الأهواز بسبب ذلك في يد آل بويه الذين جمعوها إلى أملاكهم. بسبب هذه التطورات، تمّ لِبَني بويه توسيع قاعدتهم بما يتماشى مع تطلعاتهم التوسعية وأصبح وصولهم من الأهواز إلى العراق أمراً سهلاً ولا بُدّ منه، فراحوا يُراقبون الأحداث في عاصمة الخلافة، حتى تسنح لهم الفرصة لدخولها.
كانت الأوضاع في العراق في حالة من الإضراب بسبب اشتداد الخلافات بين ابن رائق والي البصرة وأمير الأمراء من جهة، وبين أبو عبدالله البريدي والي الأهواز السابق والفار من وجه قوات الخلافة من جهة ثانية، وقد التجأ إلى علي بن بويه وأطمعه في دخول العراق. ومن جهة أخرى، كانت الخلافة واقعة تحت نفوذ الأتراك. وظهر عجزها في إقرار الأمور في العراق. فشعر الناس بهذا الفراغ السياسي، وبفشل أمراء الأمراء . كما اختلت المالية العامة في الدولة، وفرغت خزائن الخلافة، ووقع الخلفاء في ضائقة مالية شديدة نتيجة لتحكم الأتراك وجشعهم.
بسبب ذلك، لقد نظر الناس إلى هذه القوة المتفردة التي ظهرت بالقرب منهم وأثبتت وجدانيتها، لتسحبهم من الخراب والفوضى، كما شعر بعض الرؤساء المهزومين على أمرهم إلى قوة وازدهار البويهيين المتطورة، مُتأملين أن يحصُلوا بواسطتها على الامتيازات التي حرموا منها أو أُبعدوا عنها. وأخيراً مال الخليفة المتقي لطلب المساعدة من البويهيين لوضع حدٌّ للنزاعات الداخلية بين الأمراء، خاصة بعد ما ساءت العلاقات بينه وبين توزون.
وفعلاً دعا الخليفة، أحمد بن بويه وطلب منه وصل بغداد، كما دعا بعض القادة للغاية نفسها. فذهب إليها في عام (332 هجري)/(944 ميلادي)، ودخلها في عام (334 هجري)/(945 ميلادي)، بعدما خروج الأتراك منها، واستقبله الخليفة المستكفي واحتفى به وخلع عليه، وعينه أميراً للأمراء، ولقبه (مُعزّ الدولة)، ولقب أخاه علياً (عماد الدولة) كما لقب أخاه حسن (ركن الدولة). ومن ثمّ أضحت هذه الألقاب الفخمة، التسمية المألوفة للأمراء البويهيين.
وهكذا قاموا بتأسيس البويهيون في فارس والعراق والأهواز وكرمان والري وهمذان وأصفهان حركة وراثية دامت حتى عام (447 هجري)/(1055 ميلادي)، وقد فعل حركة الوراثة هذه، إلى اكتشاف نوع من الاستقرار السياسي في دولة الخلافة العباسية، سيطر البويهيون أثناءها على مقاليد الأمور، وتصرفوا بشكل مُطّلق. لكن هذا الاستقرار كانت تشوبه بعض الاضطرابات الناتجة عن النزاعات المذهبية بفعل الأسرة البويهية.