العلاقات الخارجية في عهد الرشيد:
العلاقة مع البيزنطيين:
استمر الصراع بين المسلمين والبيزنطيين في عهد الرشيد، إلا أن الحروب بينهما لم تسر وفق خطة معينة بهدف فتح منظم استقرار دائم، بل كانت غزوات انتهت دون أن تُغيّر من أوضاع الجانبين. وكان الخليفة يكتفي بأخذ الجزية. إلا أن الصدامات أظهرت تفوق المسلمين العسكري وقصر نظرهم في عدم استغلال الأوضاع الداخلية الحرجة التي كانت تمر بها الأمبراطورية البيزنطية، لتثبيت أقدامهم في المناطق المفتوحة والاستقرار فيها، وإن أضفت بهاءً خاصاً على عصره.
وأصدر الرشيد اهتماماته، فور استلامه منصب الخلافة، إلى تجهيز المناطق الحدودية المُتاخمة لبلاد البيزنطيين وتقوية الأسطول العباسي المُرابط فيها. وقد حرص على الجمع بين سياستين متوازيتين هجومية ودفاعية. فإلى جانب النشاط الهجومي ضد الأراضي البيزنطية، فإنه حرص على تدعيم الدفاعات عن المناطق الإسلامية المُعرَّضة لغارات البيزنطيين. فأنشأ مناطق على الحدود داخل وحدات إدارية تتمتع بِحُرية ذاتية في تسيير شؤونها وفصلها عن مناطق الثغور الجزرية والشامية. ووضع لمنطقة الحدود نظامين:
- النظام الأمامي، ويضم ثغور الجزيرة والشام التي خصّصت لمواجهة الممرات الجبلية، فدعّمها بالحصون وزوّدها بالحاميات.
- النظام الخلفي، ويضم الأقاليم الخلفية والحصون الجنوبية وسماها العواصم. وتمتد من أنطاكية إلى الفرات. وكانت منبج عاصمة للعواصم ثم أصبحت أنطاكية فيما بعد واختار الرشيد ابنه القاسم أميراً عليها. أما مهمتها فهي مساندة مناطق الثغور وإمدادها بالعتاد والرجال والمؤن، لذلك جهزَّها بالحاميات الدائمة والمؤن والأعتدة الخاصة بضرورات الدفاع والمساندة.
وأنشأ البيزنطيون من جانبهم خطاً دفاعياً لمواجهة الثغور الإسلامية، وضعوه تحت إشراف كبار القادة العسكريين، ويضم سلسلتي جبال طوروس ويمتد من الفرات حتى كيليكيا. وينقسم إلى قسمين:
- يمتد من ملطية إلى عين زربة وهو مُخصَّص لمواجهة نشاط المسلمين من جهة شمالي العراق.
- مُخصَّص لمواجهة نشاط المسلمين من جهة بلاد الشام.
هذا وقد ضمّت منطقة الحدود، التي اجتازها كل من الطرفين أثناء حروبِهما حصون: أدنة والمصيصة ومرعش والهارونية والحدث وملطية وطرسوس. بعد الانتهاء من إنجازات التحصين والدعم، ابتدأت الصِدامات العسكرية المتبادلة. فنشطت حركة الصوائف. وانتهز العباسيون كل فرصة أُتيحت لهم لزيادة ضغطهم العسكري.
وقد نقل الرشيد في إحدى مراحل المواجهات، مقر إقامته إلى الرقة ليكون قريباً من مسرح العمليات، كما شارك بنفسه في بعض الصوائف وفتح حصن الصفصاف في عام (181 هجري)/(797 ميلادي). وتمكنت إحدى فِرَقه من الوصول إلى أنقرة في عمق الأراضي البيزنطية واجتاحت ثغر الأوبسيكون وبلغت أفسوس على ساحل بحر إيجة.
وقفت الأمبراطورة إيرين عاجزة أمام انتصارات المسلمين فمالت إلى الصلح الذي تحقق في عام (183 هجري)/(799 ميلادي)، وتقرر بموجبه:
- تبادل الأسرى.
- تدفع إيرين جزية سنوية.
- تستمر الهدنة مدة أربعة أعوام.
استمرت الهدنة حتى عام (187 هجري)/(803 ميلادي)، حين دبرت مؤامرة ضد إيرين
فخُلعت عن العرش، واعتلى نقفور الأول العرش البيزنطي. الذي ظنَّ أنه يملك من القوة ما يكفي لمواجهة المسلمين، فرفض الاستمرار في دفع الجزية التي تعهدت بها إيرين من قبل. ولم يكتفِ بذلك، بل طالب بإعادة ما دفعته الأمبراطورة السابقة بحُجة أنها لم تفعل ذلك إلا لضعف النساء، مما أثار غضب وحنق الرشيد.
وجاء الرد على هذا التصرف سريعاً، فقد قاد الخليفة حملة عسكرية في (187 هجري)/(803 ميلادي)، وتوغل في منطقة كبادوكيا. ووجد نقفور نفسه عاجزاً عن التصدي له فاضطر إلى عرض الصلح والموادعة على خراج يؤديه كل عام، مقابل انسحاب المسلمين من المنطقة، وافق الرشيد على عرض الصلح وعاد إلى بلاده مُكتفياً بما حققه.
ويبدو أن نقفور أساء تقدير الموقف العسكري مرة أخرى، فنقض العهد وهاجم في عام (190 هجري)/(806 ميلادي)، عين زربة والكنيسة السوداء وأدنة، واستولى على طرسوس وضيّق على مرعش ولم يتمكن المسلمون من صده والوقوف بوجهه. نظراً لانهماك الخليفة بقمع الحركات الداخلية المناهضة، بالإضافة إلى أن الظروف الطبيعية السيئة والبرد الشديد حالت دون العودة لمحاربته. لكن هذا الأمر لم يدم طويلة. إِذ ما كادت الأمور الداخلية تستتب حتى قدّر الرشيد العودة إلى المناطق الحدودية للانتقام من الامبراطور.
فقاد حملة ضخمة عبر بها الحدود وتوغل بعيداً داخل الأملاك البيزنطية ففتح هرقلة وامتلك طوانة وأرسل قوة عسكرية إلى إقليم أنقرة. وشعر نقفور بعجزه عن صد المسلمين أو تخفيف ضغطهم على أراضيه، وسيطر عليه الرعب والضيق، وأخذ يبحث عن وسيلة للخروج من هذا المأزق، ولم تكن هذه الوسيلة سوى الصلح، فاتصل بالرشيد وعرض عليه السلام. ولما كان الشتاء على الأبواب، فقد قبل الرشيد عقد معاهدة صلح معه تضمن البنود التالية.
بنود معاهدة الصلح:
- أن يلتزم نقفور بدفع الخراج والجزية مبلغاً ومقداره ثلاثماية ألف دينار سنوياً.
- أن يمتنع عن إعادةِ بناء أو ترميم الحُصون التي هدمها المسلمون مثل: هرقلة وأنقرة ودبسة والصفصاف.
- لقد تعهّد الرشيد من جانبه، بعدم تخريب حصون ذي الكلاع وصملة وسنان.
- أن يرد للبيزنطيين معسكراتهم التي كانت في حوزته.
- أن تستمر الهدنة مدة ثلاثة أعوام.
استشعر نقفور، بعد فتره قليله من الوقت، أن القوة الإسلامية المُكثفة جعلت من منطقة جنوبي آسيا الصغرى منطقة قوى ونفوذها للمسلمين، كما تمكنوا من أخذ الطرق المؤشرة إلى المناطق البيزنطية المهمة ومن جهة أخرى، فقد شعر بالذل حين قبل بدفع الجزية التي كانت مطلوبه منه. لذلك قرر نقض الهدنة، فأعاد ترميم الحصون التي حرّمت المعاهدة تحصينها. وعندما علم الرشيد بذلك، استأنف العمليات العسكرية ونجح في فتح حصن دبسة مرة ثانية.
ثم حدث أن تفرغ الرشيد للاهتمام بحل المشاكل التي استجدت في خراسان، ولم تتهياً له بعد ذلك ظروف مناسبة لمتابعة نشاطه الجهادي ضد البيزنطيين، وكانت آخر عملياته تحقيق هدنة أخرى تم بموجبها تبادل الأسرى.
لم تتوقف حروب الرشيد مع البيزنطيين في آسيا الصغرى، بل وتجاوزت إلى البحر الأبيض المتوسط فى محاولات لاستعادة مركز المسلمين في الجزر القريبة من جهة، ولمساندة الحملات البرية من جهة أخرى.
فهاجمت البحرية الإسلامية، البحرية البيزنطية، كما هاجمت جزيرة قبرص في عام (190 هجري)/(806 ميلادي)، بعد أن نقض أهالي الجزيرة معاهدة الحياد التي أُبرمت في عام (79 هجري) لتنظيم العلاقات مع كل من المسلمين والبيزنطيين. كما غزا المسلمون جزيرة كريت.
يُشكل عصر هارون الرشيد شكلاً من أشكال القوة التى كانت عليها الخلافة العباسية، حتى أضحت مرهوبة الجانب. ويبدو أن هذا الخليفة أدرك أن إزالة الأمبراطورية البيزنطية من الوجود، أمر يخرج عن حدود إمكاناته، لهذا اكتفى بإشغال البيزنطيين بأنفسهم وإضعافهم، وحرمانهم من العمل العسكري المثمر ضد المسلمين، مما دفع نقفور بإعلان يوم وفاته في الثالث من شهر جمادئ الثانية عام (190 هجري) الرابع والعشرين من شهر آذار عام (809 ميلادي)، عيداً للبيزنطيين.