العلاقات الخارجية في عهد المأمون

اقرأ في هذا المقال


العلم في عهد المأمون:

اقترن اسم المأمون بتلك التطورات العلمية المُدرسة جيداً التي ازدهرت في تقدم العصر العباسي الأول بوجه عام، وفي عهده بوجه خاص. ويعتبر عهد هذا الخليفة من أرقى العهود العلمية في العصر العباسي الأول، حيث وصلت الجهود الثقافية إلى الذروة، وذلك بفعل عدة أسباب لعل أبرزها:

1- أن المأمون أولع منذ صغره بالقراءة، فدرس العلم والفقه والتاريخ والحديث والتفسير واللغة، وكان مُحباً للعلم شغوفاً بالازدياد منه، وأباح المناقشات الفكرية وشارك فيها بنفسه وسخَّر كل الإمكانات وسلك كافة السُبل ليعثر على الكنوز الفكرية في مكتبات القسطنطينية وقبرص.

2- شهد عصر المأمون نهضة علمية بفعل انكباب الناس على البحث العلمي، والإقبال على المعارف القديمة، وازدياد عدد العلماء في الأمصار.

3- لقد ساهم في تطور أوجه العلاقات بين الدول آنذاك، والجهود التي بذلها العباسيون في إحلال السلام، بالإضافة إلى المبادلات التجارية؛ على ازدهار حركة التعريب التي وصلت إلى الذروة مما ولد مناخاً مُناسباً للانكباب على العلم.

4- تعمدت الدولة العباسية، منذ عصر خليفة المنصور، إلى عقد اتفاقيات تجارية خارجية خاصة عند شراء الكتب، وقد تدفع في سبيل ذلك أغلى الأثمان. وتطورت هذه الحركة في عصر المأمون، فكان على تواصل دائم ومقرون بالأمبراطور البيزنطي ليو الأرمني، وجرى إرسال البعثات إلى بلاد البيزنطيين لاختيار الكتب العلمية القديمة المخزونة والمدخرة فيها.

5- لم تُعد شكل التعريب شكلة فردية إنما أصبحت رسمية تُعنى بها الدولة وتُنميها وتساعدها وبالإنفاق عليها بالأموال.

والواقع أنه قُدّر للمأمون أن يخدم الثقافة الإسلامية خلال حياته السياسية عن طريق اهتمامه الشخصي بجمع تراث الأمم القديمة، خاصة التراث اليوناني الذي شغف به. فأرسل بعثات علمية، للبحث عن الكتب اليونانية، ونقلها إلى بيت الحكمة الذي أنشأه في عام (215 هجري)/ (830 ميلادي). ويعتبر هذا البيت بمثابة معهد علمي يضم مكتبة لنسخ الكتب الأجنبية، وداراً لتعريبها ودرسها، ويحتوي على مرصد فلكي. وأقام المأمون طائفة من المعرّبين وأجرى عليهم الأرزاق من بيت المال. فحوى هذا البيت تراث الثقافة الإسلامية إلى جانب تراث الثقافة الأجنبية .

تأثر الفكر الإسلامي فى عصر المأمون بثلاثة موارد، فقد تأثر بالثقافة الإغريقية والهيللينية شكلاً وموضوعاً. فمن ناحية الشكل، فإن المنطق اليوناني أعطى الفكر الإسلامي صيغاً في طرق الجدل والبحث والتعبير والتدليل. فتأثرت أساليب المتكلمين بهذه الصيغ خاصة منطق أرسطو. أما من ناحية الموضوع فكان تأثيره كبيراً في تعاليم المتكلمين، أثَّرت الأفلاطونية الحديثة في التصوف.

وتأثر الفكر الإسلامي بالثقافة الهندية عن طريق الفتح والتجارة. وانتقل من خلال انتقال الهنود إلى مختلف الأمصار الإسلامية، حاملين معهم أفكارهم، وثقافتهم، كما تسربت بعض الأفكار الهندية عن طريق الفرس. وامتد التأثير الهندي إلى الإلهيات والمقالات الأدبية والرياضيات والفلك.

ويبدو أن الأثر العميق الذي تركته ثقافة الهند كان فى الرياضيات والفلك، فقد لخَّص محمد الخوارزمي للخليفة المأمون تعريب إبراهيم الفزاري لكتاب الفلك الهندي. (السرهنتا)، وربما كان هذا الكتاب الوسيلة التي وصلت بها الآرقام العربية والصفر من بلاد الهند إلى بلاد الإسلام.

ففي عام (198 هجري)/(‎814‏ ميلادي) استخدم الخوارزمي الأرقام الهندية في جداوله الرياضية، ثم نشر في عام (210‏ هجري)/(825 ميلادي)، رسالة تعرف بـ (الخوارزمي عن أرقام الهنود). كما تركت الثقافة الفارسية أثراً في اللغة العربية والأدب العربي بشكل خاص،
فقد تسربت ألفاظ فارسية كثيرة إلى هذه اللغة كما عرّبت كُتب فارسية في التنجيم والهندسة والجغرافيا والأدب والتاريخ.

وعكف المُعربون في عصر المأمون على تعريب أمهات الكتب من اللغات السنسكريتية والفهلوية واليوتانية والسريانية. وبرز منهم، في بيت الحكمة، حنين بن إسحاق. وقد عرَّب كثيراً من آثار جالينوس وأرسطو وأفلاطون وأبقراط وبطليموس، وقد كافأه المأمون على عمله بمثل وزن الكتب التي عرَّبهاء ذهباً. وأتم ابنه إسحاق أعمال التعريب، فعرَّب بعض أعمال أرسطو، وجميع آثار جالينوس الفلسفية والطبية واشترك مع عدد من العلماء في وضع موسوعة جغرافية للخليفة.

واستخدم المأمون جماعة من الفلكيين لقيام بعملية رصد الأجرام السماوية ويوثقوها هذه الأرصاد، وليحققوا كشوف بطليموس، ويدرسوا كسوف الشمس. فنقل بهذه الطريقة، إلى العالم الإسلامي، كل التراث العلمي الضخم الذي خلفه علماء اليونان.

العلاقات الخارجية فى عهد المأمون:

العلاقة مع البيزنطيين: كادت الحرب أن تضع أوزارها بين المسلمين والبيزنطيين في عهد المأمون، فقد انهمك هذا الخليفة في فض النزاع الذي قام بينه وبين أخيه الأمين مما أتاح لبيزنطية المنهكة فرصة لالتقاط أنفاسها. لذلك شهدت الجبهة الإسلامية ‏ البيزنطية رُكوداً يكاد يكون تاماً باستثناء حالات قليلة.

استمر هذا الوضع شبه المستقر حتى عام (205‏ هجري)/(820 ميلادي)، حين تجدّد
النشاط العسكري نسبياً، في عهد الأمبراطور ميخائيل الثاني. وقد استغل كل من المأمون وميخائيل هذا الفتن والثورات التي قامت في وجه كل منهما لدعم موقفه. فعقد الأول اتفاقاً مع توماس الصقلبي الذي قاد ثورة مسلحة ضد النظام البيزنطي، في حين أجرى الثاني مفاوضات مع الخرّمية الذين ثاروا في وجه المأمون.

والواقع أن الحملات الإسلامية النشطة على الأراضي البيزنطية ابتدأت في عام (215هجري)/(830‏ ميلادي)، وجاءت رداً على الغارة التي نفَّذها الأمبراطور ثيوفيل ضد زبطرة بمساندة قوات من الخرّمية. وقاد المأمون وابنه العباس عِدة حملات عسكرية وتمكنا من فتح عدة حصون في منطقة كبادوكيا، واستردا هرقلة ولؤلؤة.

وفاة المأمون:

عهد المأمون قبل وفاته إلى أخيه المعتصم بعد أن عزل أخاه القاسم وتجاوز ابنه العباس. وتوفي في البدندون وهو يغزو بلاد البيزنطيين لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر رجب عام (218 هجري)‏ شهر آب عام (833 ميلادي)، وحمل إلى طرسوس ودفن فيها. واضطر المسلمون إلى إخلاء موقعهم فيما وراء جبال طوروس.


شارك المقالة: