العلاقات الخارجية في عهد المهدي:
العلاقة مع الأمويين في الأندلس:
استمرت العلاقات السيئة بين الخلافة المشرقية في بغداد وبين الخلافة المغربية في الأندلس. والواقع أن المهدي سلك نهج والده المنصور في العمل على إعادة الأندلس إلى حظيرة الدولة العباسية، إلا أن يُعد المسافة بين الدولتين حال دون إرسال الجيوش العباسية من أجل تحقيق هذه الغاية، لكن المهدي كان يشجع كل حركة تهدف إلى إضعاف النفوذ الأموي في هذه البلاد.
وكانت تنتاب الأندلس آنذاك، حركات مُناهضة للحكم الأموي يقوم بها البربر أحياناً نتيجة تذبذب ولاءاتهم للعرب واليمنية أحياناً أخرى بفعل اعتماد الأمير الأموي على القيسية. ففي عام (157 هجري)/(774 ميلادي)، تآمر والي برشلونة وجيرندة سليمان بن يقظان الكلبي المعروف بالأعرابي وهو يمني الانتماء مع حسين بن يحيى الأنصاري والي سرقسطة، على قتال عبد الرحمن وخلعه. وانضم إليهما عبد الرحمن بن حبيب الفهري الذي غلب عليه لقب الصقلبي وكان والياً في بلاد المغرب ولقي الجميع تشجيعاً وتأييداً من قبل المهدي.
ويبدو أن سُليمان شعر بعجزه عن مواجهة الأمير الأموي، فطلب مساعدة من الخارج واتخذت مؤامرته بُعداً سياسياً خطيراً حين اتصل بشارلمان الكارولنجي في بادر بودن في عام (160 هجري)/( 777 ميلادي) واتفق معه على أن يقوم بمهاجمة الولايات الشمالية للأندلس، وتعهد له بتسليمه المدن التي يحكمها؛ دون أن يُقدر نتائج تعاونه مع الكفار على الإسلام والمسلمين وقد وافقه حسين بن يحيى الأنصاري على هذه الخطوة.
جرت هذه الاتصالات في الوقت الذي كان فيه الأمير الأموي مُنهمكاً في إخضاع ثورة أخرى للبربر بقيادة الفاطمي. والواقع أن شارلمان رحّب بالمشروع الذي عرض عليه بفعل دافعين:
- أوروبي – مسيحي، فالحملة إذا تمت تُعتبر أول حملة هجومية يقوم بها الكارولنجيون ضد المسلمين بعد سلسلة من الحملات التي قام بها هؤلاء في عمق أراضي الفرنجة، بالإضافة إلى أنها ستكسبه نفوذاً أدبياً كبيراً في العالم المسيحي مما يعزز منافسته لأمبراطور الدولة البيزنطية؛ ويدعم جهوده السياسية في إعادة إحياء الأمبراطورية الرومانية الغربية، ثم السيطرة على أوروبا.
- كراهيته للإسلام والمسلمين. فقد راودته آمال وتطلعات لطردهم من أسبانيا، لا سيما وأن سيادتهم في جنوبي فرنسا قد ضعفت، أو على الأقل حماية الحدود الجنوبية لمملكته من التهديد الإسلامي بتبني سياسة الهجوم من أجل الدفاع.
كانت الخطة المتفق عليها هي أن يعبر الملك الكارولنجي جبال البرينييه ويتجه إلى مدينة سرقطة فيُسلمها له الأعرابي وفي الوقت نفسه، يزحف عبد الرحمن الفهري من المغرب ويهاجم الساحل الشرقي للآندلس وينزل بجيوشه في مرسيه. وبهذا يضربون الطوق على عبد الرحمن الداخل ويقضون عليه ثم يعلنون خضوع البلاد للحكم العباسي.
وكان تفجر الثورة في الشمال الأسباني ضد الحكم الأموي إشارة البدء بالتنفيذ، فتحرك الفهري من المغرب ونزل بجيشه على ساحل مرسيه؛ إلا أن عبد الرحمن باغته وقضى عليه ولما اجتمعت الجيوش الكارولنجية أمام مدينة سرقسطة، حسب الخطة الموضوعة استعاد المُتآمرون صوابهم وأدركوا فداحة الخطأ الذي وقعوا فيه؛ فرفض الأنصاري أن يمضي أكثر من ذلك في تنفيذ المؤامرة؛ فأغلق أبواب المدينة في وجه القوات الكارولنجية.
بالإضافة إلى هذا التطور في المواقف السياسية فقد وصلت إلى مسامع شارلمان أخبار عن قيام السكسون بثورة أخرى في ألمانيا مستغلين الفراغ العسكري الذي أحدثه غيابه، فاضطر إلى التخلي عن مشروعه في الأندلس، وعاد إلى بلاده في عام (162 هجري)/(779 ميلادي). وهكذا ساعدت الظروف من جديد، الأمير عبد الرحمن الداخل وفشل هذا الغزو الضخم الذي تعرضت له بلاده، كما فشل العباسيون في استعادة الأندلس أو إضعاف النفوذ الأموي فيه.
العلاقة مع البيزنطيين:
اعتلى ليو الرابع عرش الأمبراطورية البيزنطية في العام نفسه الذي اعتلى فيه المهدي الخلافة وكانت الدلائل تشير مع بداية حُكمهما، إلى أن العلاقات الحسنة سوف يكتب لها النجاح. فقد أطلق الأمبراطور سراح كل المسجونين المسلمين ورد الخليفة المهدي على هذه المبادرة بمثلها.
لكن محاولات إحلال السلام، اصطدمت بطبيعة العلاقات بين الدولتين المتصارعتين التي غلب عليها الطابع الصدامي. وأتاح استقرار الأوضاع نسبياً داخل الأمبراطورية البيزنطية وعلى حدودها الخارجية للأمبراطور، أن يعمل على زيادة عديد من قواته لمواجهة غزوات المسلمين، كما احتفظ بالقادة المحنكين من ذوي الخبرة والكفاءة ممن عملوا تحت إمرة والده.
انتهز الأمبراطور هذه الظروف المؤاتية، وشّن هجوماً على سميساط في عام
(159 هجري)/(776 ميلادي)، وأسر بعض المسلمين، إلا أن المهدي أرسل أحد مواليه فأنقذ
المدينة. والواقع أن هذه الحملة تعكس معنى واضحاً من جانب ليو الرابع وهو الاستمرار في انتهاج سياسة عدائية تجاه المسلمين.
أثارت الحملة على سميساط غضب الخليفة المهدي وقرر الرد السريع، فأرسل جيشاً ضخماً، بقيادة عمه العباس بن محمد، توغل داخل الأراضي البيزنطية حتى وصل إلى أنقره وفتح قلعة كاسن في كبادوكيا. تكمن أهمية هذه الحملة في أنها أثبتت حضوراً إسلامياً قوياً على الأرض مقابل الحضور البيزنطي وتُعتبر دليلاً على قوة الخلافة، رغم متاعبها الداخلية في إخماد الحركات المعادية.
استمر النشاط الإسلامى والبيزنطي محدوداً بعد ذلك، حتى نشط في منتصف عام (161 هجري)/(778 ميلادي) حين أرسل الخليفة قائده المُحنك ثمامة بن الوليد على رأس جيش إسلامي كبير، أغار على مرحب والمناطق المحيطة بدابق شمالي حلب. رد الأمبراطور على هذه الغارة، فأرسل جيشاً حاصر مرعش وفصل قوة عسكرية اعترضت تقدم ثمامة باتجاه الحدث وسيطرت على عدة قرى في المنطقة، لكن الجيش البيزنطي، فشل في دخول مرعش وفضّل قادته رفع الحصار عنها والعودة إلى العاصمة.
عكست الحملة على مرعش مخاوف الخليفة الذي انتابه القلق من تزايد الخطر البيزنطي، فكان عليه أن يثبّت وجوده وفعلاً جهّز جيشاً ضخماً عهد بقيادته إلى الحسن بن قُحطبة؛ وأمره بغزو بلاد البيزنطيين. توغل هذا القائد في الأناضول وحاصر دوريليوم وأغار على المناطق المجاورة واقترب من عمورية، ثم جلا عن المنطقة بسبب قلة الإمدادات وتناقص المؤن ولم تحقق حملته أهدافاً ذات قيمة، إنما أكّدت حضوراً إسلامياً قوياً في المنطقة.
استأنف البيزنطيون نشاطهم العسكري في عام (162 هجري)/(778 ميلادي) فأغاروا على الحدث، وجاء الرد الإسلامي في العام التالي حين غزا هارون بن المهدي الأراضي البيزنطية وفتح عدداً من الحصون أههمها سمالو، ثم حدث أن واجهت بيزنطية في عام (164 هجري)/ (781 ميلادي)، صعوبتين أثرتا تأثيراً سلبياً على قدراتها:
- وفاة الأمبراطور ليو الرابع واعتلاء زوجته إيرين عرش الأمبراطورية كوصية على ابنها القاصر قسطنطين وقد نتج عن ذلك تململ بعض القادة.
- تعرضت بيزنطية آنذاك، لثورة كبيرة في صقلية، فاضطرت إلى توزيع قواتها ما بين هذه الجزيرة والجبهة الشرقية مع المسلمين.
استغل الخليفة المهدي هذه الأوضاع القلقة، فأرسل حملة ضخمة إلى بلاد البيزنطيين بقيادة ابنه هارون وأمرهُ بمهاجمة القسطنطينية. هاجمت الحملة أثناء توغلها المناطق الاستراتيجية في كيليكيا والأناضول بهدف السيطرة عليها. وحتى يموّه هارون أهداف وجهة الحملة، أرسل قوة عسكرية هاجمت ثغر تراقيسيون،وواصل الجيش الرئيسي زحفه نحو العاصمة مُتجاوزاً المقاومة التي اعترضت طريقه ومتغلباً عليها.
أدركت إيرين بعد هذه التطورات العسكرية هدف الحملة، فهبّت للدفاع عن العاصمة ونجحت قواتها في تطويق الجيش الإسلامي الذي أضحى أفراده في موقف حرج، لكن هارون تمكّن بذكائه وبفضل مهارته القيادية، من الخروج من هذا المأزق وتابع تقدمه حتى بلغ خليج القسطنطينية وهدّد العاصمة. ورأت إيرين نفسها في موقف صعب لا يتيح لها المُساومة أو الاختيار فخضعت مضطرة لشروط هارون وأهمها:
- تدفع إيرين للخلافة العباسية جزية سنوية تتراوح بين سبعين ألف وتسعين ألف دينار تسدد على دفعتين.
- يتم تبادل الأسرى بين الجانبين.
- تلتزم بيزنطية بفتح الأسواق للتجار المسلمين في رحلة العودة.
- تمدُّ بيزنطية الجيش الإسلامي بالمرشدين في طريق العودة.
- يسمح لأفراد الجيش الإسلامي بأن يحملوا معهم كافة الغنائم.
- يستمر الصلح مدة ثلاثة أعوام.
نتيجة لهذا الإنجاز الذي حققّه هارون، جعلت أباه يلقبه ب (الرشيد)، تعتبر هذه الحملة من أهم حملات الخليفة المهدي على الجبهة البيزنطية، كما كانت خاتمة الحملات العربية الإسلامية على البوسفور. استمرت الهدنة بين الطرفين حتى عام (168 هجري)/(784 ميلادي) حين نقضها البيزنطيون بعد مورور اثنين وثلاثين شهراً فاستؤنفت الغارات الإسلامة على الأراضي البيزنطية إلا أنها لم تحقق أي إنجاز يُذكر حتى كانت وفاة المهدي في العام التالي. والواقع أن الخليفة المهدي حقََّق إنجازاً كبيراً في سياسة الجهاد أكّدت تحول كفة الصراع في عهده إلى جانب المسلمين.