العلاقة بين الجانبين الحسي والعقلي في المعرفة العلمية في علم الاجتماع:
يتضح أن الجانبين الحسي والعقلي في المعرفة العلمية في العلم، لا انفصال بينهما على الإطلاق وأن العلاقة بينهما دائماً علاقة جدلية، فالمفاهيم والأحكام والقوانين والنظريات كلها قائمة في الأساس على ملاحظات حسية لمعطيات الواقع المادي الذي يدرسه العلم.
كما أن هذه الجوانب العقلية جميعها ترشد العالم بعد ذلك عند إجرائه لمزيد من الملاحظات العلمية باستخدام أعضاء الحس، وكلما تطورت المعرفة العقلية كلما أمكن للعلماء جمع حقائق جديدة، وكلما جمعت حقائق جديدة كلما أدى ذلك إلى تطوير المعرفة العقلية والوصول إلى نظريات أكثر اتساعاً وشمولاً وصدقاً، ولما كانت النظرية العلمية هي أكثر عناصر الجانب العقلي من العلم تجريداً أو تعميماً فأنه يجدر بنا أن نتحدث عن أهم وظائف النظرية في العلم.
يحدد ويليام جود وبول هات في كتابهما مناهج البحث الاجتماعي، وظائف كل من النظرية الجانب العقلي والوقائع الجانب الحسي في العلم على النحو التالي:
أولاً: وظائف النظرية في العلم
1- تحديد الاتجاه الأساسي للعلم:
وذلك من خلال تحديد نوع المادة أو الوقائع التي ينبغي إحصائها عن الظاهرة المدروسة، فلو كانت الظاهرة موضع الدراسة مثلاً هي كرة القدم، فإن النظرية الاقتصادية سوف توجه العالم لانتقاء حقائق عن أنماط العرض والطلب، التي ترتبط بتسويقها في الوقت الذي تحدد النظرية الكيماوية انتقاء حقائق عن إنشاء الكرة من الناحية الكيميائية، وتوجه النظرية الفيزيائية العالم نحو حقائق عن كتلة الكرة والضغوط المختلفة التي تؤثر على ثقلها وسرعتها، أما النظرية الاجتماعية فهي توجه العالم، لجمع حقائق تتعلق بالأنشطة الاجتماعية المتصلة بالكرة ونوعيات التنظيمات الاجتماعية الخاصة بهذا النشاط.
2- تقديم إطار تصوري:
يسترشد به أفراد المجتمع عند انتقائه للحقائق، وهذا الإطار يساعد المجتمع على معرفة ما بين الوقائع من علاقات ويرشده إلى نوعية الوقائع التي يتعين عليه انتقائها.
3- تلخيص الوقائع وتلخيص العلاقات بينها:
إن كل قانون وكل فرض بل وحتى كل مفهوم تمثله النظرية، ليس إلا تلخيصاً أو تكثيفاً كبيراً لكمية لا نهاية له من الملاحظات التي قام العلماء بإجرائها، فمفهوم الخلية الحية مثلاً، يلخص في كلمة واحدة وملاحظات عديدة أجريت عن شكل أو صورة معينة من المادة ومفهوم الأسر يفعل نفس الشيء والقوانين تلخص العلاقات الكثيرة بين الظاهرات موضوع الدراسة، والنظرية تستنتج العلاقات والقوانين، وبدون عملية التلخيص والتنظيم هذه، يتعذر بشكل تام الإلمام بمكتشفات العلم أو استنتاج أي شيء منها.
4- التنبؤ بالوقائع:
إذا كانت النظرية تستنتج الوقائع وتقرر وجود نظام عام يربط بين الملاحظات التي يتوصل إليها العالم، فأنها تصبح أيضاً تنبؤات بما سيحدث في المستقبل، فقولنا مثلاً أن المعادن تتمدد بالحرارة، يعني في نفس الوقت أنه إذا لم تترك مسافات ملائمة بين قضبان السكك الحديدية، فأنها سوف تتقوس نظراً لتمددها.
5- تحديد أوجه النقص في معرفتنا:
أننا لا نتمكن أن نعرف ما نحتاجه في أي مجال إلا إذا عرفنا أولاً ما هو متاح لدينا، وإذا كانت المعرفة الموجودة لدينا من الكثرة فأنه يصعب علينا أن نعرفها جيداً، ولما كانت النظرية تلخص وتنظم المعرفة المكتسبة، فأنها تساعدنا على التعرف على ما نحتاجه من معرفة وبالتالي ترشدنا إلى الجوانب التي ينبغي أن نركز بحثنا عليها.
6- النظرية تقوم بمهمة ترشيد التطبيق:
إن الهدف النهائي للعلم هي التطبيق، بمعنى أن العلماء يتعلمون ظاهرات الكون ويرجون التوصل إلى القوانين التي تسيطر عليها، من أجل استعمال حصيلة دراستهم في التصرف مع الطبيعة والتحكم بها، والنظريات العلمية بما أنها استنتاج لجميع الحقائق التي استحدثها العلماء، تقوم بمهمة ترشيد أي إرشاد التطبيقات العلمية في مجالات الحياة المختلفة، فقوانين الطفو مثلاً ساعدت على بناء السفن ونظرية الجاذبية ساعدت على بناء الطائرات.
والعلاقة بين الممارسة أو التطبيق من جهة وبين النظرية العلمية من جهة أخرى علاقة متبادلة، فمحك صدق النظرية هو نجاح ما تشير إليه من تطبيقات عملية، كما أن التطبيقات العملية والممارسة، تدعو العلماء إلى استكمال أو تعديل نظرياتهم.
ثانياً: وظائف الوقائع في العلم
إن النظرية التي تمثل أعلى مراحل الجانب العقلي في العلم والوقائع التي يمثل وصفها وملاحظتها الجانب الحسي في العلم، يمثلان وحدة عضوية ولا وجود أحدهما دون الآخر، فالمعرفة العقلية أو المجردة مستحيلة دون معرفة حسية ذلك أن المعلومات التي تمدنا بها أعضاء الحس هي المادة الأولية أو الأساسية التي تتكون على أساسها المفهومات العناصر أو المكونات الأساسية للمعرفة العقلية، كما أن المعرفة الحسية وحدها لا يمكن اكتسابها دون توجيه عقلي، فالمعرفة العقلية تضفي معنى أعمق على المعلومات التي تزودنا بها أعضاء الحس وتمكننا من معرفة جوهر الظاهرات التي ندرسها، ومثلما بينا دور النظرية في العلم فأننا يجب أن نبين أيضاً دور الوقائع في العلم.