العلاقة بين العباسيين والطالبيين:
خروج محمد النفس الزكية :
لم ينس الطالبيون حقهم في الخلافة منذ مقتل الحسين في كربلاء. فإنهم ما برحوا في كل أدوار حياتهم؛ يتذرعون إلى نيل حقهم بكل وسيلة، فإن وجدوا الفرصة سانحة اغتنموها، وإذا آنسوا من أنفسهم ضعفاً ركنوا إلى الهدوء. ولما قامت الدعوة العباسية انخرط بعض منهم فيها ظناً منهم بأنها طالبية في حين وقف بعضهم الآخر على الحيادن تاركين الأمور تجري في مجراها الطبيعي، على الرغم من تأييدهم لفكرة الثورة على الأمويين.
يبدو أنَّ الحركة كانت بين الطرفين العباسيين والطالبيين، أثناء مرحلة الدعوة العباسية، كانت جيدة وعندما انتهت الثورة: بانتقال الخلافة من وإلى آل العباس، اعتبر الطالبيون خاصة أن العباسيين قاموا بخدعهم، واستأثروا بالخلافة مع أنهم أحق بها. ولم يكن من اليسير أن يتحملوا كل ما تحملوه من مضايقات من الأمويين لتقوم بعد ذلك دعوة باسمهم تنزع حقهم. لذلك ناصبوهم العداء.
وحاول العباسيون من جانبهم في مستهل حياتهم السياسية، أن يتعاونوا مع الطالبيين لإعطاء دولتهم الناشئة الفرصة لتثبيت أقدامها، ثم بدأ الفريقان في التباعد شيئاً فشيئاً، حين أعلن السفاح في خطبة له في الكوفة أن الخلافة عباسية وستبقى عباسية وأنه ليس لأحد أي حق فيها، قاصداً بذلك الطالبيين.
إلا أن العلاقة بين الطرفين اتسمت بالهدوء والمسالمة، ثم تبدلت بعد ذلك في عهد المنصور، فمالت نحو التأزم ثم الاصطدام. ذلك أن هذا الخليفة وقد شعر أن المعارضة الطالبية أضحت خصماً عنيداً، راح يهدد كل من يخرج على الدولة. والواقع أن أول الخارجين من الطالبيين على حكم العباسيين، كان محمد بن عبدالله بن الحسن المعروف بالنفس الزكية وأخوه إبراهيم وهما من الفرع في حين ركن الإمام جعفر الصادق إلى المهادنة واستطاع أن يقنع أتباعه بأن الظروف غير مناسبة لإقامة الخلافة الطالبية.
ويبدو أن محمداً كان يهوي إلى نفسه ويسلط أضواءه إلى الخلافة قبل وصول العباسيين إلى الحكم وكانوا يدعون له في الحجاز والعراق وخراسان وراح يتهيأ ويجهز نفسه لليوم الموعود. إلا أنه أخطأ في تقدير حساباته حين ظنَّ أن الدعوة التي انتشرت في خراسان والتي رفعت شعار الرضا ليست إلا دعوة للطالبيين وهو مرشحهم للخلافة.
ولما اعطى العباسيون السلطة، لم يوافق عن ذلك وتمنع عن مبايعة الخليفة السفاح؛ وحاول قدر الإمكان الخروج من حكمه؛ فرفض والده لِمَا للخليفة عليه من الفضائل. وعندما تولى أبو جعفر المنصور منصب الخلافة رفضوا الأخوان محمد وإبراهيم عن مبايعته، وعاشوا في الحجاز في مكان سري، مما أزعجه وأيّقضَ مضجعه، لذلك تَعِبَ في البحث عنهما حتى اكتشف مكانهما. واعتقد محمد النفس الزكية آنذاك، أن ظروف خروجه باتت مؤاتية بفعل عدة عوامل لعل أهمها:
- تضبيق العباسيين عليه.
- قيام المنصور بصب جام عذابه على أسرته بهدف الضغط عليهم لتسليمه مع أخيه.
- كما وصلته رسائل تأييد من أمراء الأقاليم وكبار قادة المنصور يحثونه على الخر وج.
- اعتراف كثير من الناس بإمامته، خاصة أهل الحجاز.
- إلحاح أصحابه عليه بالخروج بعدما سئموا الانتظار.
- تأييد والده له بالخروج.
- إفتاء الإمام مالك بجواز بيعته ونقض بيعة المنصور.
- اعتقاده أنه أضحى أقوى من المنصور.
لذلك أعان دعوته وظهر في المدينة في مستهل شهر يجب عام (145 هجري) شهر آب عام (762 ميلادي) وتلقب بأمير المؤمين، في حين ذهب أخوه إبراهيم به إلى البصرة ليرفع لواء الانتفاضة فيها وبدأ أنصار الطالبيين يرتدون البياض. وظهر ما كان خافياً على المنصور فعرف أن المدينة هى قاعدة محمد النفس الزكية ومنطلقه فركّز اهتمامه على الحجاز لمنع انتشار دعوته.
ثم لجأ إلى المناورة السياسية؛ فدعاه من أجل حل النزاعات بينهما سلمياً، ودخل من أجل ذلك في سلسلة من المراسلات معه واتخذ في الوقت نفسه التدابير المهمه لفصل الحجاز عن باقي الأمصار، لقطع الإمدادات عنه، وصد الناس عن دعوته، ثم ارتحل إلى الكوفة فأحكم قبضته عليها كما نجح في دفع الخراسانيين عن مساندته.
وجاءت الخطوة الحاسمة للقضاء على حركته؛ على يد الفرق العسكرية وسرعان ما وجد محمد نفسه يواجه الكثير من المتاعب بفعل عدة عوامل أهمها:
- إحجام معظم أهل المدينة عن مساعدته.
- لقد أخطأ في تقدير خروجه؛ فقد كان متفقاً مع أخيه إبراهيم أن يخرج في البصرة في اليوم الذي يخرج هو فيه في المدينة؛ لكن أخاه لم يخرج في اليوم المحدد لمرض ألّم به وأن محمداً خرج قبل اليوم المحدد نتيجة الضغوط عليه، مما أفقده عنصر التنسيق الضروري للنجاح وأعطى المنصور فرصة طيبة استغلها لضرب الأخوين كل على حدة.
- لقد تردّد في مواجهة خصمه.
وأخيراً حدثت المعركة الفاصلة بين الطرفين في صبيحة اثنتي عشرة ليلة من شهر رمضان؛ وانتهت بانتصار الجيش العباسي ومقتل محمد النفس الزكية، عصر يوم الإثنين في الرابع عشر من الشهر المذكور. وأمَّن عيسى بن موسى قائد الجيش العباسي الذي تولى المهمة أهلّ المدينة، إلا أنه صادر ممتلكات بني الحسن بن علي. وهكذا تم أول فصل من فصول هذه المأساة ولم يبقَ أمام المنصور إلا القضاء على حركة إبراهيم في البصرة.
خروج إبراهيم بن عبدالله:
عاش إبراهيم بن عبدالله في البصرة، بعد أن رحل من الحجاز، حيث وجد فيها الأرضية الصالحة لنمو وانتشار افكاره الموالية للطالبيين. فانحازت الزيدية والمعتزلة تحت لوائه والتف حوله الضعفاء والطبقات الفقيرة الكبيرة والمحرومة. أملاً في مساعدتهم مما يعانونه من فاقة واستعباد وأيده الأمويون فيها وساندته العثمانية لما له من صلة النسب بعثمان بن عفان وشَّد أزره فقهاء البصرة.
واستطاع بواسطة هؤلاء جميعاً من أن يسيطر بالراحة على البصرة وانحازت له الأهواز وفارس والمدائن أما بالنسبة للكوفة المتوثبة هو التخلص من الحكم العباسي، فقد أحكم المنصور قبضته وعزيمته عليها مما حرمه من مساعدة أبنائها. ونمت حركة إبراهيم وتوافدت الجموع على البصرة لتُبايعه فقويت شوكته. وشعر بأن الفرصة أصبحت سانحة للاصطدام بالخليفة. ولمّا جاءته الأخبار بقتل أخيه دعا إلى نفسه بالخلافة وتسمى بأمير المؤمنين وبايعه أتباعه على ذلك.
الواقع أن هذه الحركة تُعتبر من أقوى الحركات التي واجهت المنصور، وذلك بسيطرة إبراهيم على مناطق واسعة وغنية أثّرت تأثيراً سلبياً على قدرات الدولة، وخوفها من الخليفة فحاول الهروب من الكوفة ليلحق بإبنه المهدي في الري كما حاول مراسلة إبراهيم بشأن عقد صلح بينهما.
وأخيراً وقعت المواجهة العسكرية بين الطرفين في باخمرا، وهي قرية قريبة من منطقة الكوفة، في شهر ذي القعدة عام (145 هجري) شهر كانون الثاني عام (763 ميلادي) وكادت الهزيمة خسارة تلحق بالجيش العباسي الذي قاده عيسى بن موسى وبدا النصر قاب قوسين أدنى لولا أن تغير وجه المعركة فجأة عندما أُصيب إبراهيم بسهم في عنقه أودى بحياته، فاضطرب نظام جيشه. وشنَّ الجيش العباسي هجوماً مضاداً كفل له النصر.