العلاقة مع الفرنجة في عهد الرشيد:
أظهر العالم الإسلامي في عهد الرشيد، وتكوين دولتين إسلاميتين عظيمتين هما: دولة الخلافة العباسية في المشرق والدولة الأموية في الأندلس. وتجزئ العالم المسيحي حينها، إلى دولتين كبيرتين هُما: الدولة البيزنطية في الشرق، ودولة الفرنجة الكارولنجية في الغرب. وقد استند بعض المؤرخين الغربيين على الخصومات الإقليمية كمبرر لحصول التقاء بعض هذه الأطراف على أهداف مشتركة، فتقاربت الخلافة العباسية مع الفرنجة، وتقاربت بيزنطية مع الأمويين في الأندلس وكان لهذه التقاربات أسبابها ودوافعها وانعكاساتها على العلاقات بين الشرق والغرب.
لقد تباينت طبيعة العلاقات بين دولة الفرنجة والدولة الأموية في الأندلس، عن طبيعة العلاقات بين الدولة الأولى ودولة الخلافة العباسية. وثبتت بين الدولتين الفرنجية والأموية حالة من عدم الأستقرار والعداء بفعل تجاورهما واتجاهات المسلمين للتوسع نحو الشمال من جهة، ومحاولة الكارولنجيين السيطرة على أوروبا ووراثة الأمبراطورية الرومانية من جهة ثانية، مما أدّى إلى الاصطدام بينهما.
أما فيما يتعلق بالعلاقات بين الفرنجة والعباسيين، فقد كانت بعيدة عن مطامح الكارولنجبين مما أتاح فرصة ملائمة لقيام علاقات سياسية بين الجانبين. هذا ولم تشر المصادر الشرقية إسلامية كانت أم نصرانية إلى هذه العلاقات، وانفردت المصادر اللاتينية بذكر الصلة التي ربطت الرشيد بشارلمان ملك الفرنجة، لكنها تبدو مضطربة وغامضة: مما يُقلّل من ثقة المؤرخين بها. ولعل أبرز المؤرخين الذين عالجوا هذه العلاقة هم إينهارد، مؤرخ شارلمان وكاتب سيرته، والراهب سانت جول والأخبار الملكية.
واستناداً إلى هذه المصادر فقد ابتدأت هذه العلاقات بين العاهلين في عام (181 هجري)/(797 ميلادي)، حين أرسل شارلمان وفدين إلى الشرق، الأول إلى الخليفة الرشيد، والثاني إلى بطريرك القدس. تكوّنت البعثة الأولى من ثلاثة أفراد اثنين من الفرنجة والثالث يهودي يُدعى إسحاق، الذي قام بأعمال الترجمة، لكن هذه المصادر تخلو من ذكر مكان مقابلة مبعوثي شارلمان للرشيد.
ويبدو أن أعضاء البعثة بحثوا مع الخليفة سُبل تقوية التعاون بين الدولتين، كما طلبوا من الرشيد منح تسهيلات للحجاج الكاثوليك إلى الأماكن المقدسة، وحمايتهم من الأرثوذكس. ويذكر إينهارد أن هدف السفارة هو الحصول على فيل من عند الخليفة.
استغرقت رحلة البعثة مدة ثلاثة أعوامن توفي أثناءها الفرنجيان وعاد إسحاق وحده مع فيل، هدية من الرشيد إلى شارلمان. وفي عام (183 هجري/(799 ميلادي)، أرسل الرشيد بعثة إلى البلاط الفرنجين تألفت من عضوين أحدُهما فارسي يمثل الخليفة، والآخر مغربي يمثل إبراهيم بن الأغلب. وقد وصلت إلى آخن عاصمة الكارولنجيين في الوقت نفسه الذي وصل فيه فيه إسحاق، ويبدو أنها كانت رداً على سفارة شارلمان الأولى له.
ثم أرسل شارلمان سفارة ثانية إلى الرشيد في عام (186 هجري)/(802 ميلادي). كما
أرسل الرشيد سفارة ثانية في عام (192 هجري)/(807 ميلادي). وحدث أثناء وجود السفارات الغربية في الشرق، أن حصل تقارب ودّي بين بطريرك القدس وشارلمان، وتم تبادل السفارات والهدايا بين الجانبين. وأرسل البطريرك إلى الملك الفرنجي مفاتيح كنيسة القيامة ومفاتيح مدينة القدس وراية. ولا تشير المصادر إلى أي مطالب تقدم بها البطريرك إلى شارلمان. أما فيما يتعلق بالدوافع التي أدّت إلى قيام العلاقات بين الجانبين فهي:
دوافع الرشيد:
- إن الخصومة التقليدية بين المسلمين والبيزنطيين، دفعت الخليفة العباسي إلى القضاء على نفوذهم المعنوي بين مسيحيي الشرق عن طريق تقوية صلاته بالغرب.
- عداء الخليفة العباسي للأمويين في الأندلس ورغبته في إعادة هذه البلاد إلى كنف الخلافة العباسية.
دوافع شارلمان:
- رغبة الملك الفرنجي في السيطرة على أوروبا، بما فيها الأندلس، بهدف وراث تاج الأمبراطورية الرومانية وحاجته إلى تأييد الخليفة المعنوي حتى لا يواجه مُعارضة من قبل عرب الأندلس، كما واجه في حملته على هذه البلاد في عام (162 هجري)/(778 ميلادي)، التي انتهت بالفشل.
- الخلاف بينه وبين الأمبراطور البيزنطي حول وراثة تاج الدولة الرومانية.
- رغبته في إعطاء تسهيلات لرعاياه الراغبين بالحج إلى الأماكن المقدسة، وفي تكوين نفوذ معنوي له في تلك الأماكن.
- العداء بين البابا، حليف شارلمان وبطريرك القسطنطينية وتنافسهما حول السيادة الروحية على العالم المسيحي.
لكن نمط هذه العلاقة وتلك الدوافع الكامنة وراءها، أثارتا جدلاً بين المؤرخين فمنهم من نفى حصول هذه العلاقات، وأنكر بالتالي قيام أية علاقات سياسية بين الدولتين العباسية والكارولنجية، ولم تتعد الصلات التجارية أفراداً من رعايا الدولتين دون الخلفاء والملوك.
وهناك فئة من المؤرخين علّلت أهداف تلك السفارات من خلال الدوافع الدينية التي شكّلت أبرز أسبابها، وذلك من زاوية الحفاظ على حرية المسيحيين بزيارة الأماكن المقدسة في فلسطين، وتأمين الحماية لهم. وقد حصل شارلمان على وعد من الرشيد بتحقيق ذلك. وهناك فريق ثالث من المؤرخين يرى فيها اتجاهاً سياسياً بهدف توحيد الرؤية السياسية بين الدولتين، باعتبارهما تشتركان في كثير من مظاهر الدولة السياسية في ذلك الوقت.
ويرى فريق رابع من المؤرخين، أن دوافع تلك السفارات هي محاولة عقد حلف بين الدولتين، بهدف وقوف الرشيد ضد الدولة البيزنطية، ووقوف شارلمان ضد الدولة الأموية في الأندلس، وذلك بحكم عداء كل من العباسيين للأمويين والفرنجة للبيزنطيين.
لكن الحقائق التاريخية تنفي أي احتمال لقيام مثل هذا التحالف السياسي بين العاهلين بدليل:
1- أن تاريخ هذه السفارات كما ورد في المصادر، يتزامن مع الاتصالات السياسية بين الأمبراطورة البيزنطية إيرين من جهة، وشارلمان من جهة أخرى، لحل الخلافات بين دولتيهما حول مقاطعتي أُستريا ودلماسيا بالطرق السلمية، وقد استمرت العلاقات الطيبة بشكل عام بين شارلمان وخلفاء إيرين، نقفور وميخائيل الأول.
2- لم يحتاج الرشيد إلى دعم الغرب في صِراعه مع البيزنطيين لأنه كان المنتصر عليهم، وذهب بعيداً في تأكيد انتصاره حين فرض الجزية عليهم، لذلك لم تكن العلاقات العباسية البيزنطية بحاجة إلى مسوغ لاتصال العباسيين بالفرنجة من أجل عِدائهما المشترك لبيزنطية.
3- لا يوجد أي وثائق قوية على أن مسيحيي الشرق أنهم كانوا يكونون مشكلتاً على سلامة الدولة الإسلامية في عهد الرشيد، أو أن أوضاعهم كانت سيئة في ظل الحكم العباسي. وقد عامل الخلفاء العباسيون في العصر العباسي الأول، النصارى من رعايا دولتهم وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية في معاملة أهل الذمة، وقد بلغ بعضهم مكانة رفيعة في قصور الخلافة، وتبوأ بعضهم مناصب إدارية في الإدارة العباسية مثل جرجس بن جبرائيل وابنه بختيشوع الطبيب.
4- لا يمكن للرشيد أن يتنازل عن حقوقه السياسية في الأماكن المقدسة في فلسطين ليتولاها الملك الفرنجي، كما لم يكن وضع النصارى في فلسطين يستدعي من البطريرك أن يُطلب حماية ملك الفرنجة. وافتقرت المصادر الفرنجية إلى الإيضاحات بشأن أهداف تلك البعثات المتبادلة بين ملك الفرنجة وبطريرك بيت المقدس، وهناك إشارة غامضة إلى مُلكية الموقع المقدس.
5- إن نظرية حماية شارلمان للأماكن المقدسة هي أسطورة، اخترعها المؤرخ الراهب سانت جول الذي كتب حوالي خمسين عاماً بعد وفاة شارلمان. إذ جمع هذا الراهب المعلومات عن السفارات، والهدايا المتبادلة ليكوّن قصة مضمونها أن الرشيد تنازل لشارلمان عن السيادة على فلسطين، وأرسل إليه وارداتها، في محاولة لإعادة بسط سيطرة النصارى على الأماكن المقدسة.
6- إن تقديم مفاتيح كنيسة القيامة والقدس، بالإضافة إلى الراية من قبل بطريرك بيت المقدس لشارلمان، لا يمكن أن يُعطى معنى سياسياً لأن الرواة لم يُعلقوا عليه مثل هذه الأهمية ويتفقون على أنه كان من باب الدُعاء والتبريك والجدير ذكره أن بطريرك بيت المقدس لا يستطيع القيام بخطوة هامة ذات أبعاد سياسية دون الحصول على موافقة الخليفة الذي تخضع بيت المقدس لدولته.
7- لا يوجد ما يدعو إلى قيام عوامل ثقة بين العاهلين. ومن المستبعد أن يتفق الرشيد مع شارلمان على ضرب مُسلمي الأندلس، خاصة وأنه لم يعد يُفكر جدّياً في استعادة هذه البلاد في وقت اضطر فيه إلى التخلى عن إفريقية.
8- لم تشر المصادر الشرقية إسلامية كانت أم مسيحية إلى هذه السفارات مع أنها أشارت إلى سفارات تبودلت بين الرشيد وملك الهند.
والراجح احتمال وجود نوع من العلاقات التجارية والسياسية التي لم تأخذ شكلاً من أشكال التحالف السياسي، وأن المسؤول عنها هم التجار اليهود الذين كانوا حلقة الوصل بين الشرق والغرب، يُتاجرون بين فرنسا والأقطار الإسلامية والصين، خاصة وأن أساليب التجار آنئذ أن يدّعوا بأنهم سفراء لتسهيل مصالحهم.