اقرأ في هذا المقال
- تقسيم عملية الانتقال إلى مرحلتين
- التشابه في خصائص المراحل
- استخدام التفسير الاجتماعي
- النظر إلى الشخصية على أنها من إنتاج المجتمع
يتمثل التشابه بين دور كايم وابن خلدون أكثر ما يتمثل في تحليلهما لعملية انتقال المجتمع من البسيط إلى المركب.
تقسيم عملية الانتقال إلى مرحلتين:
ينظر ابن خلدون إلى هذه العملية على أنها انتقال من مرحلة البداوة، صعوداً إلى مرحلة أكثر تطوراً هي مرحلة التحضر، أما دور كايم فينظر إلى هذه العملية على أنها انتقال، من مرحلة التضامن الميكانيكي إلى مرحلة التضامن العضوي.
والافتراض الذي يقوم عليه هذا التقسيم يتعلق بموقف كل منهما من عملية سير الحضارة والتاريخ، فكلا العاملين يفترض أن المجتمع يسير بشكل خطي صاعد نحو مرحلة أكثر رقياً وتطوراً من سابقتها.
فابن خلدون ينظر أحياناً بإعجاب إلى مرحلة التحضر، وما فيها من صناعات وفنون وخدمات مختلفة، لكنه يتحدث في أحياناً أخرى عن هذه المرحلة، وكأنها مرادفة للإغراق في الترف، الذي يؤدي إلى الانحدار في ظل غياب واضح للعصبية النقية، التي توجد في مرحلة البداوة.
أما دور كايم فبالرغم من أنه يفضل شرح مظاهر قوة المجتمع الحديث (التضامن العضوي)، الموجودة في القانون الوضعي، والتخصص وتقسيم العمل، وسيادة العلاقات التعاقدية الرسمية، فإننا نجده في أكثر من مناسبة يرثي ضياع العلاقات الأولية الحميمة، التي كان يقدمها المجتمع التقليدي (التضامن الآلي).
التشابه في خصائص المراحل:
تتميز المرحلة الأولى لدى كل من ابن خلدون ودور كايم، بأن المجتمع فيها صغير الحجم، وقليل التنوع في المجال الاقتصادي، لكنه شديد التماسك اجتماعياً، وتنبع شدة التماسك في هذه المجتمع من قوة معنوية مجردة، توجد مستقلة عن الأفراد، يسميها ابن خلدون (العصبية)، بينما يسميها دور كايم (الضمير الجمعي).
أما المرحلة الثانية فتتميز لدى العاملين بضعف هذه القوة المعنوية المجردة، فالعصبية تضعف في المجتمع الحضري، وكذلك الضمير الجمعي، الذي يتلاشى بالتدريج في مجتمع التضامن العضوي.
استخدام التفسير الاجتماعي:
يستعمل ابن خلدون في تفسيره للعوامل التي تؤدي إلى انتقال المجتمع من البداوة إلى التحضر، عاملين أو متغيرين، كل منهما ظاهرة اجتماعية، استعملت لتفسير العملية، وهذان العاملان هما: (تنوع النحل من المعاش) و (العصبية).
وهنا فإن ابن خلدون لا ينحرف عن المبادئ المنهجية التي نادى بها، وأهمها أن الظاهرة الاجتماعية، يجب أن تفسر بظاهرة من جنسها، كما يجوز أحياناً أن تفسر بظاهرة أخرى من غير جنسها، أي بظاهرة جغرافية.
أما دور كايم فإنه يستعمل العاملين نفسيهما تقريباً، ولكن تحت تسميات مختلفة، فهو يقرر أن هذا الانتقال يأتي نتيجة لنمو (تقسيم العمل الاجتماعي)، ويرتبط هذان العاملان بعامل ثالث هو زيادة كثافة التفاعل الاجتماعي، الناتجة عن نمو حجم المجتمع وزيادة عدد سكانه.
وهنا فإن دور كايم لا ينحرف أيضاً عن أهم المبادئ المنهجية التي طورها، أعني أن الظاهرة الاجتماعية يجب أن تفسر بظاهرة اجتماعية أخرى، ويرفض تفسير الظاهرة الاجتماعية بظاهرة من غير جنسها، سواء أكانت نفسية أم جغرافية.
النظر إلى الشخصية على أنها من إنتاج المجتمع:
يظهر موقف ابن خلدون من العلاقة بين الفرد (الشخصية)، والمجتمع من خلال تحليله للتغير الذي يصيب أخلاق الفرد، نتيجة لانتقال المجتمع من البداوة إلى التحضر، مما يعني أنه يرى أن أخلاق الفرد، أو سماته الشخصية هي انعكاس للبناء الاجتماعي الذي يعيش فيه.
فالفرد في مرحلة البداوة يتميز بالخشونة والتقشف والميل إلى الشجاعة الجسدية، وهي مميزات تجد معناها وأهميتها من خلال البناء الاجتماعي الذي توجد فيه، أما في مرحلة التحضر فإن الفرد يميل إلى الترف والابتعاد عن الشجاعة الجسدية، وهي مميزات شخصية تجد معناها أيضاً من خلال البناء الاجتماعي الذي توجد فيه.
ويبدو دور كايم أكثر صراحة من ابن خلدون في هذا المجال، فهو يؤكد مراراً أن الفرد من إنتاج المجتمع الذي يعيش فيه، أي أنه من إنتاج الظواهر الاجتماعية التي تحيط به، ذلك أن هذه الظواهر أسبق في وجودها على وجود الفرد، الذي يجدها حوله منذ الولادة وحتى الموت.
يعتبر موقف الفرد من هذه الظواهر، كما يوضح دور كايم، موقف المتعلم الملتزم بمحتواها من المعايير والقيم والتوجيهات اﻷخلاقية، والأنماط السلوكية الشائعة، ويدلل دور كايم على صحة موقفه النظري هذا، بتقديم أمثلة من المجتمع التقليدي، ومن المجتمع الحديث المعقد، فالفرد في المجتمع التقليدي نسخة مكررة في مظهره وفي أخلاقه عن الآخرين.
ويعود ذلك إلى قوة الضمير الجمعي في هذا المجتمع، وهي قوة كافية لتغليف الجميع، لكن الفرد في المجتمع العضوي يختلف عن ذلك، فهو يمتلك درجة من التفرد والتميز عن الآخرين سواء في مهنته، أو مظهره أو عاداته.