النظرية الاجتماعية بين الواقع والممكن في علم الاجتماع:
إن مكونات العلم والعلاقة العضوية بين الجانبين الحسي والمعرفي، والاعتماد المتبادل بين النظرية من جهة والوقائع من جهة أخرى، يمثل الصورة غير متحققة في ميدان علم الاجتماع بصفة خاصة، وقد قرر عالم الاجتماع الأمريكي الشهير رايت مليز في كتابه التصورات السوسيولوجية، أن هذا العلم يوجد به انقسام وعدم تكامل بين المعرفة الحسية من جهة والمعرفة العقلية من جهة أخرى.
فهناك بين علماء الاجتماع من يقتصر عملهم على مجرد جمع وقائع جزئية عن الحياة الاجتماعية دون أن يؤدي جمع هذه الوقائع بنظرية عامة، وهناك فريق آخر من علماء الاجتماع يقومون بصياغة نظريات عامة عن المواطنين، تتصف بالصبغة التأملية أو المكتبية دون أن تستند هذه النظريات على حقيقة تمت ملاحظتها والتأكد من صحتها، وقد أطلق رايت مليز على الفئة الأولى أصحاب اتجاه الأمبيريقية أو التجريبية المجتزأة، ويبين رايت مليز في كتابه عن عقم الاتجاهين، وكيف أن كل واحد منهما يؤدي إلى صعوبة تطور علم الاجتماع ويمنع الوصول إلى المعرفة العلمية السليمة للظاهرات الاجتماعية.
وقد كان من جراء ذلك ما نجده الآن في ميدان علم الاجتماع من تعدد في النظريات، وعلى عكس ما نجده في العلوم الطبيعية من وحدة النظرية، وإذا كان أي علم من العلوم يتصف بالوحدة بين الجانبين الحسي والعقلي فإن هذا الانقسام الواضح في علم الاجتماع إنما يدل على أنه لم يبلغ في الواقع بعد المستوى المطلوب، وأن نظرياته التي لا تدعمها الحقائق، لا تزيد عن كونها تأملات فكرية ولا ترقى إلى مستوى النظريات العلمية، ولا يجب أن يتبادر إلى أذهاننا أن هناك استحالة في الوصول إلى نظريات علمية في ميدان علم الاجتماع.
فذلك ممكن تماماً ﻷن الظاهرات الاجتماعية التي يدرسها هذا العلم ظاهرات طبيعية أي توجد في الطبيعة، ويمكن إخضاعها تماماً للدراسة بالمنهج العلمي، وبالتالي يمكن الوصول إلى القوانين التي تحكمها، وصياغة نظرية عامة عنها، ولكن عجز علم الاجتماع عن تحقيق ذلك حتى الآن، فقد يرجع إلى أسباب اجتماعية وأيديولوجية تناولها الكثيرون من علماء الاجتماع.