سنعرض في هذا المقال بعض المصطلحات والمفاهيم الأنثروبولوجية الأساسية ومنها مصطلح الأنثروبولوجيا الطبية ومصطلح الأنثروبولوجيا القانونية.
مصطلح الأنثروبولوجيا الطبية:
(Medical Anthropology) إن ميدان الأنثروبولوجيا الطبية الذي يفضل البعض تسميته الطب السلالي أحد الفروع الفائقة التطور في ميدان الأنثروبولوجيا، والأنثروبولوجيا التطبيقية، إلى حد أنه يكاد يكتسب مكانة العلم المستقل. وقد عارض بعض المؤلفين استخدام مصطلح الأنثروبولوجيا الطبية، نظراً لأنه قد يوحي بتبعية هذا الميدان للنموذج الطبي للمرض والصحة كما يعرفه الطب الرسمي المتخصص في الغرب.
ونظراً لأن إحدى الوظائف الهامة لهذا الميدان من البحث الأنثروبولوجي أن يعيد فحص الحكمة الطبية التقليدية، لذلك فقد شعر البعض بأن مصطلح الأنثروبولوجيا الطبية ليس مناسباً. ومع ذلك، فما زالت هذه التسمية هي أكثر الأسماء شيوعاً، وإن بدأ اسم الطب السلالي يلقي رواجاً وانتشاراً.
ويمكن أيضاً أن نفرق بين الأنثروبولوجيا الطبية والأنثروبولوجيا الإكلينيكية التي تحاول تطبيق المعرفة الأنثروبولوجية في حل بعض الحالات الإكلينيكية الخاصة في الممارسة الطبية. وتعد الأنثروبولوجيا الطبية أو أنثروبولوجيا الصحة كما يمكن أن نسميها أيضاً أحد الميادين التي نمت بسرعة فائقة، خاصة في الولايات المتحدة خلال الأربعين عاماً الماضية. ولا يرجع تنامي الاهتمام بهذا الميدان إلى مجرد الحذق الكبير في الخطاب الأنثروبولوجي عن المرض.
وإنما يرجع كذلك إلى الانفتاح المتزايد للأطباء ومخططي الشئون الصحية على مختلف اتجاهات العلوم الاجتماعية. ويرتبط هذا الاتجاه نحو الاهتمام بهذا الميدان إلى تزايد مشروعية الاهتمام بأساليب الطب البديل في العلاج واستراتيجيات الرعاية الصحية على مستوى المجتمع المحلي. ونجد أن الكتابات الإثنوجرافية التي وضعت قبل نمو الأنثروبولوجيا الطبية كميدان فرعي مستقل، لا ان تكون تميل إلى التأيد على الجوانب الاجتماعية والرمزية للمرض.
ومع ذلك تحاول كثر من الدراسات الأحدث تطوير ما أطلق عليه يونج (Young) في مراجعة لهذا الموضوع نسق تصوري يتركز حول العناصر والسمات الاجتماعية والتجريبية المميزة لكل من المرض والعلاج.
أما الطب السلالي، من جهة أخرى، فيركز على دراسة الأنساق الطبية غير الغربية، وعلى دراسة المعتقدات والممارسات التي تختلف عن تلك المرتبطة بالطب العلمي التقليدي (اللاوبائي) وقد حاول يونج مثل غيره من علماء هذا التخصص، أن يميز بين ثلاثة مصطلحات تستخدم في هذا الميدان هي: الصحة (Sickness)، والمرض (Disease)، والعلة (Illness).
والمصطلح الأول متكامل، قام بالإشارة إلى كافة الأحداث التي تحتوي على اعتلال الصحة، سواء ان هذا الاعتلال مرض (disease) أو علة (illness) أما المصطلح الثاني (disease)، فيشير إلى الحالات المرضية للكائن الحي، بصرف النظر عن الإدراك الثقافي والنفسي لهذه الحالات (هذا هو التعريف الطبي الرسمي للمرض والصحة). وأخيراً يشير المصطلح الثالث (illness) إلى التعريف الثقافي والاجتماعي، أو الإدراك الحسي والخبرات المرتبطة بالمرض.
ويتضمن هذا المصطلح بعض الحالات المرضية التي يمكن أن تعد أمراضاً (وفق التعريف الطبي)، وغيرها من الحالات التي ليست مصنفة أمراض وفقاً للتعريف الطبي (الرسمي) للحالات المرضية. ونجد أن أنثروبولوجيا المرض التي تأثرت بالأنثروبولوجيا الرمزية والتوجهات التفسيرية قد ركزت على دراسة الأبعاد المعرفية والرمزية للمرض.
وعلى سبيل المثال، قام جود (Good) بتطوير فكرة الشبكة الدلالية للأمراض التي يعرفها بأنها شبكة من الكلمات والمواقف، والأعراض، والمشاعر التي ترتبط بمرض معين، وتجعل له معنى لدى المريض. وبالمثل، أشار كلاينمان ١٩٨٠ إلى نماذج تفسيرية للمرض، تعد بمثابة نماذج للحقيقة ونماذج للعمل الهادف. ونجد، من جهة أخرى، أن أنثروبولوجيا المرض تركز على دراسة العلاقات الاجتماعية التي تؤدي إلى ظهور أشكال المرض وتوزيعها داخل المجتمع (يونج).
فهذا المدخل لا يركز اهتمامه على خبرة المرض، بل يركز على الأنساق الاجتماعية وبناءات القوة، والمعاني والآثار الاجتماعية للمرض. وتوجد في المجتمع مجموعة من القواعد لترجمة الإشارات إلى أعراض، ولتعريف المرض، وأنماط العلاج. ولا تؤثر القوي الاجتماعية فقط على التشخيص، ولكنها تؤثر كثر ذلك على إمكانية الحصول على مختلف أنواع العلاج وزيارة المعالجين بالنسبة لمختلف قطاعات السكان.
وفي نفس الوقت، تعد الإجراءات الطبية إجراءات أيديولوجية أيضاً، لأنه كما أشار يونج فإن رموز العلاج تعد في نفس الوقت رموزاً للقوة. وقد يمكننا التمييز بين الأنثروبولوجيا الإلينيكية، التي تهدف أساساً إلى زيادة الكفاية الإكلينيكية، وبين ذلك القسم من الأنثروبولوجيا الطبية الذي يهتم بتحليل علاقات القوة الاجتماعية وإنتاج المعرفة الطبية.
وتعمل الأنثروبولوجيا الإكلينيكية على إدخال الحس الثقافي بالمقارنة في الممارسة الطبية وتشجع الوعي بطريقة تنظيم المريض رمزياً ومعرفياً لخبرة المرض والعلاج. أما القسم الآخر من الأنثروبولوجيا الإكينيكية، فيهتم بالوقوف على كيفية عمل الأنساق الطبية كجزء من الأيديولوجيا وبناء القوة في المجتمع، بالإضافة إلى نقد النسق الطبي كجزء من نظام التدرج الطبقي الاجتماعي.
مصطلح الأنثروبولوجيا القانونية:
(Anthropology of Law) بدأ العديد من علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع خلال القرن التاسع عشر، حياتهم الأكاديمية بدراسة القانون، أو تولد اهتمامهم بالدراسة الأنثروبولوجية من خلال اهتمامهم بالقانون البدائي وتاريخ المؤسسات القانونية. ومن أبرز هؤلاء العلماء باخوفين، ماكلينان، مين ومورجان.
فقد كان الاهتمام بالقانون، الذي يتوافر في الغالب مع خلفية واسعة في الدراسات الكلاسيكية، يمثل حافزاً أساسياً لصياغة نظريات القرن التاسع عشر الخاصة بالمجتمع والتطور الاجتماعي. فوجدنا على سبيل المثال، يتتبع تطور المجتمع من خلال تطور الأنظمة القانونية. ويهتم مجال الأنثروبولوجيا القانونية بإدارة الصراع في المجتمع الإنساني، وأن تكون نظريات القانون ترتبط أوثق الارتباط بنظريات الصراع والفلسفات السياسية الخاصة بالصراع.
وقد أوضح كولييه في استعراض لهذا الميدان أنه إذا أن المجتمع يمثل الدفاع المنظم ضد الطبيعة البشرية، فمعنى ذلك أن القانون له دور إيجابي، إذن، في إدارة الصراع وتنظيمه. أما إذ أن البشر الخيرين بالضرورة وأن الصراع في المجتمع، فإن القانون يعتبر في هذه الحالة أداة قمع، والواقع أن ثمة عنصر من عناصر الغموض، أو التوتر، داخل هذا النظام القانوني بين جانبين اثنين هما: التحكم في الانحراف أو تنظيمه، والمحافظة على الوضع القائم.
وتعكس نظريات القانون والانحراف المختلفة هذا الغموض، فبعضها يركز على المنحرف الفرد، على اعتبار أن الفرد يعد نتاجاً لعملية تنشئة ناقصة، والبعض الآخر يركز على مسؤولية المجتمع نفسه وإلى أي مدى يخلق هذا المجتمع صراعات بين الأفراد، والجماعات والطبقات الاجتماعية.
وفرق إبستين Epstein ١٩٧٤ في دراسة للقانون العرفى عند المالينزيين، بين “النزاع” الذي يعد توتراً ناتجاً عن ضغوط من داخل النسيج الاجتماعي و”الخلاف” الذي يعد تعبيراً خاصاً عن بعض حالات النزاع. وأوضح أن حل خلاف معين لا يؤدي إلى حل المشكلة الأساسية التي قد تكون مصدر النزاع. لذا يميل المالينزيون، مثلهم مثل غيرهم من المجتمعات، إلى إرجاع المشكلات البنائية داخل المجتمع إلى السمات الشخصية أو مشاعر الإخفاق عند الأفراد.
وتؤدي العملية القانونية، عبر تركيزها على أن الفرد “ضحية الظروف”، إلى المحافظة على النظام الذي خلق هذه المشكلة، بناء على ذلك يتم النظر إلى النظم القانونية بوصفها صمامات أمان، بمعنى أنها تميل إلى إضفاء الطابع الفردي على المشكلات التي تعد مشكلات اجتماعية في جوهرها ، فتصرف الانتباه عن الأسباب الجذرية وتركز على أحداث ووقائع خاصة. وقد لعبت نظريات دوركايم دوراً مهماً بالنسبة للاتجاهات الاجتماعية العلمية في دراسة القانون.
حيث ذهب دوركايم إلى أن الانحراف إنما هو خلق الجميع للمجتمع، ولكي يحافظ هذا المجتمع على تماسكه لابد من أن يحدد الحدود الأخلاقية عن طريق خلق أفراد خارجيين، أو وصم البعض بصفة الانحراف. وهكذا ان تكون نظرية دوركايم هي أصل “نظرية الوصمة” في السلوك المنحرف، النظرية التي تهتم ببحث عمليات الاختيار والوصم التي تتم على أفراد أو جماعات منحرفة.
وقد أثرت أفكار دوركايم، أيضاً، في النماذج التي تتبني منظوراً صراعياً في تفسير الانحراف، والتي تربط عملية اختيار ووصم المنحرفين بالتدرج الطبقي الاجتماعي، وتنظر إلى الجريمة وإلى العمليات القانونية بوصفها نتاجاً لأيديولوجية الطبقة العامة، تلك الطبقة التي تحاول الحفاظ على وضعها المسيطر.
وقد أوضحت نظريات الصراع أن القانون والعملية التشريعية تعد ذاتها ميداناً للصراع (التنافس) Arenas للتعبير عن الصراع والدهاء السياسي، خاصة عندما يتم التشريع بغرض تحقيق أهداف سياسية معينة.
وأوضح العديد من علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا أن التركيز على القانون بوصفه مجموعة من القواعد أو القوانين، أو على الفلسفات القانونية أو على المفاهيم بوصفها مفاهيم مستقلة، يفضى بنا إلى تجاهل جوانب التطبيق والعملية القانونية، وهي العملية التي لا توجد في القانون في ذاته بل تشكل جزءاً من سياقه الاجتماعي والثقافي.
لذا نجد أن الكثير من النظريات الاجتماعية لا تركز على القواعد القانونية في حد ذاتها بل تركز على عملية النزاع، وهي العملية التي تتضمن صياغة أشكال النزاع، والتعبير عنه وإدارته وحله. ويرتبط التركيز على مواقف النزاع بمنهج دارسة الحالة التي تزيل اللثام عن خط سير العمليات القانونية والمبادئ التي تحدد تطبيقها على حالات بعينها.
واهتمامات الدراسات الأنثروبولوجية بتفسير الارتباطات التنظيمية الاجتماعية للأشكال المختلفة من مواقف تسوية النزاع مثل التحاشي، والعرافة (الكهانة)، والامتحان الإلهي (الشعائري)، والوساطة، والمفاوضة (التفاوض)، والتحكيم، والحكم القضائي. فالتحاشي، على سبيل المثال، يعبر عن موقف تسوية نزاع لا يرتبط نسبياً بحدود اجتماعية معينة، ولا يشهد تطوراً ملموساً لوسائل الضبط الاجتماعية، كما هو الحال في مجتمعات الصيد والجمع.
أما الحكم القضائي من ناحية أخرى فيعمل على تمثيل جانب من القانون الرسمي الخاص بالضبط الاجتماعي، الذي تمّ العمل على تطويره مع تزايد تقسيم العمل وتزايد التدرج الطبقي الاجتماعي و نمو البيروقراطية.