هناك بعض المصطلحات والمفاهيم الأنثروبولوجية الأساسية التي يجب معرفتها عند أجراء أي دراسة أو بحث يخص علم الإنسان وفي هذا المقال سنتناول مصطلح الأنثروبولوجيا الدينية ومصطلح الأنثروبولوجيا السياسية.
مصطلح الأنثروبولوجيا الدينية:
(Anthropology of Religion) الأنثروبولوجيا الدينية، شأنها شأن مجالات عديدة مهمة من مجالات البحث الأنثروبولوجي، لا تمتلك تعريفاً محدداً ومقبولاً من الكافة لموضوعها الأساسي، وهو الظاهرة الدينية. ومع أننا نستطيع أن نقدر حدساً نوع السلوكيات التي ينبغي أن توصف بأنها “دينية”.
إلا أنه من الأمور البالغة الصعوبة تحديد وتعريف الدين نفسه لأغراض الدراسة الأنثروبولوجية. وترجع أولى محاولات تعريف الدين على أساس مضمونه إلى تايلور، الذي عرفه بأنه “الإيمان بالكائنات الروحية”.
وقد وجه النقد إلى هذا التعريف، على أساس أنه ليس من الواضح دائماً ما إذا انه يعتقد أن ظاهرة معينة تعد روحية أو طبيعية، وأن هذا الحكم يختلف من وجهة نظر الملاحظ عنه من وجهة نظر المعتقد.
ولا يوافق أغلب الأنثروبولوجيين المعاصرين على أن الإيمان بالكائنات الروحية أو الكائنات فوق الطبيعية يختلف في الجوهر عن الإيمان بالظواهر الطبيعية، طالما أن هذان النوعين من الإيمان يتم اكتسابهما أثناء عملية التنشئة الاجتماعية، والعمليات التربوية، وأنه يتم التسليم بها على مسؤولية الآخرين.
وذهب أنثروبولوجيون آخرون إلى تفضيل التعريفات الوظيفية للدين، أي في ضوء ما يفعله، وهي النظرة التي تأثرت بنظريات دوركايم عن الوظائف الاجتماعية للمعتقدات والأفعال الدينية.
ونهج آخرون سبيلاً آخر في تطوير أعمال دوركايم حيث حاولوا عزل الملامح الرمزية الخاصة للدين التي تميز المقدس عن العلماني. وفي القرن التاسع عشر اهتمت دراسات علم الأديان المقارن اهتماماً كبيراً بموضوع أصل الأشكال الدينية وتطورها.
وسيطر على هذا الميدان، كما سيطر على غيره من ميادين البحث الأنثروبولوجي، الجدل حول أقدم أشكال الدين وتطوره إلى أن بلغ الأشكال المعاصرة. وذهب تايلور إلى أن الأنيميزم (المذهب الحيوي) هي أقدم أشكال الدين عند البشر الأوائل وتأملاتهم.
حول النوم واليقظة والأحلام والموت وما إلى ذلك من أفكار قادتهم إلى الاعتقاد بوجود الروح ككيان يمكن أن ينفصل عن الجسد. وقال تايلور إن الشكل الديني الأول قد تطور وتحول إلى عبادة الأسلاف التي تطورت إلى الاعتقاد في تعدد الآلهة، ثم تطور أخيراً إلى التوحيد.
أما فريزر فقد كان يشارك تايلور رؤيته العقلانية لأصول الدين وتطورها، حيث ذهب إلى أن الدين قد تطور عن محاولات البشر الأوائل فهم أو تفسير خبرتهم عن بيئتهم وعن عمليات حياتهم، ومن ثم اقترح نوعاً آخر من تنميط الأشكال الدينية.
وأوضح أن هناك ثلاث مراحل من التطور الفعلي التي عرفتها الثقافة الإنسانية هي، السحر والدين والعلم. وتتميز كل مرحلة بنوع خاص من نظرية تفسير العلّية (السببية) وكيفية استطاعة البشر التأثير على مجريات الأمور.
وفي مقابل هذه النظريات العقلانية للدين ظهرت مخططات أخرى أكدت على الجوانب اللاعقلانية لوظائف المعتقدات الدينية. من هذا مثلاً ما ذهب إليه ماريت من أن أصل الدين موجود في الإحيائية أو الإيمان بقوة لا شخصية وغير محددة تنبثق عن الشعور بالرهبة والدهشة عند تأمل العالم الطبيعي.
ثم قدم فرويد من ناحية أخرى نظرية في الدين تربطه بنموذجه عن الديناميات النفسية عند الإنسان، معتبراً أن المعتقدات الدينية هي عبارة عن إسقاطات للتوترات والصراعات والعقد النفسية.
وهكذا تكون الكائنات العلوية أو الأرواح عبارة عن خيالات جمعية، تفسر عموماً بأنها شخوص أبوية نشعر تجاهها بمشاعر مزدوجة، وأن الدين يكون في هذه الحالة نوعاً من العصاب الجماعي.
أما دوركايم فقد نظر إلى الدين كظاهرة اجتماعية من صنع المجتمع تعبر عن التضامن الاجتماعي وتدعمه، بحيث تعد المعتقدات الدينية بمعنى معين تعبيراً مجازياً عن المجتمع نفسه، والطبيعة المقدسة للالتزامات الاجتماعية والتماسك الاجتماعي.
واعتبر أن (التوتمية) هي أقدم أشكال الدين عند البشر، ورفض معيار تايلور بالاعتقاد في الكائنات الروحية، مفضلاً عليه معيار المقدس بوصفه السمة المميزة للدين.
وتطورت وجهة نظر دوركايم الوظيفية في أعمال الأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية وفي الاتجاه البنائي الوظيفي في النظر إلى الدين كانعكاس للبناء الاجتماعي. أما البنيوية الفرنسية وغيرها من ميادين الأنثروبولوجيا الرمزية فقد طورت جانباً آخر من آراء دوركايم في الدين.
ألا وهو تركزه على الأبعاد الرمزية للدين، والتمييز بين المقدس والعلماني. ومن النظريات الأخرى المهمة في الدين والتي أثرت في الأنثروبولوجيا المعاصرة نظرية ماركس، الذي اعتبر أن الدين ليس سوى ثمرة من ثمار أيديولوجيا الطبقة المسيطرة.
وأنه يستهدف تبرير وتحييد تلك السيطرة، وكذلك تحييد الإمكانيات الثورية للمقهورين وذلك بتقديم التحرر الوهمي في العالم الآخر كبديل عن التحرر في هذا العالم.
فعلى حين رأى دوركايم الدين انعكاساً إيجابياً حقيقياً للبناء الاجتماعي، ذهب ماركس إلى اعتباره انعكاساً زائفاً أو أيديولوجياً من صنع مصالح طبقة اجتماعية معينة.
وما زالت مناقشات ونظريات القرن التاسع عشر متصلة حتى اليوم، وإن كان في صيغ معدلة، داخل إطار الأنثروبولوجيا الدينية، فمازال كثر من الأنثروبولوجيين المعاصرين يتبنون تعريف تايلور للدين بوصفه إيماناً بكائنات روحية.
وأوضح سبيرو أنه بالرغم من اعترافه بصعوبات تعريف الكائنات “الروحية” أوما فوق المستوى الإنساني، وبوجود أديان لا تعرف كلهة مثل بعض الفلسفات البوذية إلا أنه يخلص إلى أن أفضل تعريف للدين مازال هو: “الدين مؤسسة تتكون من تفاعل يتحددث قافياً مع كائنات فوق بشرية تفترضها الثقافة”.
ويعد جيرتز من كبار المفكرين النظريين المعاصرين في ميدان الأنثروبولوجيا الدينية. ويرى أن الدين هو: “نسق من الرموز يستهدف خلق أمزجة ودوافع تتسم بالقوة والشمول والاستمرار في قلوب الناس، وذلك عن طريق صياغة تصورات لنظام عام للوجود، وإلباس تلك التصورات هالة من الصدق الواقعي، بحيث تبدو تلك الأمزجة والدوافع واقعية تماماً”.
وهذا الاتجاه الذي قال به جيرتز يربط بين ملامح مختلفة لبعض النظريات التي أشرنا إليها، التي يشير كل منها في الواقع إلى بعض جوانب الظاهرة الدينية، ولكن لا تكفي واحدة منها بمفردها لوصف وتعريف هذه الظاهرة الكلية المركبة.
ويتفق جيرتز مع فيبر في أن الدين يواجه مشكلة المعنى والفهم، ومشكلات الشر والمعاناة، وذلك بربطها بإطار أوسع يعتمد على قبول السلطـة أو العقيدة. فالدين، على خلاف التقدير السليم، يتجاوز الواقع اليومي أو “الواقعية الساذجة”، ليس من ناحية النشاط أو التحليل العلمي، وإنما على أساس العقيدة والسلطة.
مصطلح الأنثروبولوجيا السياسية:
(Political Anthropology) تتعدد تعريفات التنظيم السياسي بنفس كثرة تعريفات ميدان السياسة في المجتمع. وقد حدد (جورج بالاندييه) أربع طرق رئيسية لتعريف المجال السياسي، وهي الطرق التي تحاول تناول المشكلة الأنثروبولوجية الخاصة بغياب أو بالغياب الظاهري للأبنية السياسية الرسمية في كثير من المجتمعات البسيطة أو التقليدية.
ويرى بعض الباحثين، تأثراً أن التصورات الإقليمية هي أصل ومركز الأنساق السياسية، الي تتحدد وتعمل داخل نطاق إقليمي معين. ويقدم باحثون آخرون تعريفات وظيفية للمجال السياسي، تؤكد عادة على مهمة الحفاظ على الاكتمال والتماسك المادي للمجتمع، ومهمة صنع القرار وتوجيه الشؤون العامة.
وهناك نوع آخر من النظريات يركز على تعريف المجال السياسي في ضوء أشكال العمل السياسي. وهناك نوع رابع من التعريفات هذا التعريف البنيوي أو الصوري، وهو تعريف يركز على السمات الصورية للأنساق السياسية على المستوى المثالي وليس على المستوى الواقعي.
وما زال ميدان الأنثروبولوجيا السياسية بسبب حداثة عهده نسبياً يعاني من عدم اكتمال نمو نماذجه المنهجية والنظرية التي تلائم اهتماماته الخاصة، على الرغم من أنه مازال يجتاز عملية استيعاب وتعديل المستوى العالمي من الدقة النظرية لكل من الفلسفة السياسية وعلم السياسة.
وهما العلمان اللذان يعتمد عليهما في استخلاص اتجاهاته في دراسة الأنساق السياسية ومشكلة القوة من المنظور الأنثروبولوجي. ومع ذلك فمن الصواب القول أنه على حين كان تحليل البُعد السياسي يمثل جزءاً مهماً من غالبية الدراسات الأنثروبولوجية.
إلا أن هذا البُعد كان يفسر عادة على أنه جانب من جوانب مجالات أخرى، أو كل من فيها، مثل: القرابة والدين والاقتصاد وغيرها. ولذلك لم ينل حقه من التحليل كسمات للنسق السياسي في ذاته.
ومن الطبيعي أن تعريف الجانب السياسي في المجتمعات التي لا تعرف حكومة رسمية، أو دولة مركزية، بل قد لا تعرف في بعض الأحيان قيادة (زعامة) واضحة منظمة، من الطبيعي أن تلك كانت بعض الموضوعات الرئيسية التي تناولتها البحوث الأنثروبولوجية.
ويلاحظ أن التعريف الوظيفي للتنظيم السياسي، وهو الذي يربط هذا التنظيم بالمعايير والأدوار المستخدمة في المجتمع للحفاظ على الحدود الإقليمية، وتوزيع القوة وصنع القرار بشأن نشاط الجماعة، يلاحظ أن هذا التعريف ينبغي ألا يطمس رؤيتنا للعمليات السياسية الأكبر والأوسع التي تأخذ في اعتبارها ارتباط المجتمع المحلي القروي أو القبلي ببناء القوة السياسي الإقليمي والقومي والدولي.
ولكي نفهم هذه الصور من التكامل الواسع النطاق يتعين علينا استخدام التحليل التاريخي والعمليات والاعتماد على تدقيق نظري أكبر مما يتسم به النموذج الوظيفي، الذي يفترض وصفه كحكم توجد تشابه جوهري في “الحاجات” البشرية والسياسية، وأن هذا التشابه هو أساس تطور الأدوار والوظائف السياسية في المجتمعات البسيطة إن القوة السياسية كامنة في شتى أنواع المجتمعات، بما فيها تلك التي لا تملك آليات رسمية للحكم.
ولقد بذل علماء الأنثروبولوجيا قدراً كبيراً من الاهتمام لدراسة كيف تستطيع المجتمعات التي لا تملك نظاماً للسلطة الرسمية المركزية أن تحافظ على النظام وتحافظ على تماسكها.
ولا يقتصر ذلك على مجتمعات صغيرة الحجم، وإنما ينصب أحياناً على مجتمعات كبيرة مثل قبائل النوير في السودان الذين يبلغ عددهم حوالي مائتي ألف نسمة، ولكنهم يستطيعون، كما أوضح إيفانز بريتشارد فى دراسته الكلاسيكية الحفاظ على بناء سياسي منظم قائم على نظام البدنة الإنقسامي ودون وجود سلطة مركزية عامة. لذلك اتجه لتفسير الأنساق السياسية فى إطار الأنثروبولوجيا الوظيفية.