اقرأ في هذا المقال
- تدابير الخليفة أبي العباس للحد من اتساع نفوذ أبي مسلم الخرساني
- الأحداث التي جرت بين أبو مسلم وأبو العباس وأبو جعفر
تدابير الخليفة أبي العباس للحد من اتساع نفوذ أبي مسلم الخرساني:
لقد توطدت سلطة أبي مسلم في خراسان بعد أن تخلص من جميع الشخصيات القوية والطموحة في خراسان وأقاليم للشرق الإسلامي، بحيث أصبح زعيم خراسان دون منازع وازدادت سلطاته اتساعاً فامتدت إلى أقاليم بلاد فارس الأخرى اعتقد أن تعيين الولاة من اختصاصه وليس من اختصاص الخليفة، فقد كان له عمال على فارس والمناطق المجاورة، ثم إنه كان يأمر الولاة الذين يرسلهم بطرد الولاة الذين عينهم الخليفة أبو العباس، فقد أرسل أبو مسلم سنة (132 هجري)، محمد بن الأشعث الخزاعي والياً على فارس، وأمره بالقبض على جميع الولاة الذين عينهم أبو سلمة سابقأ، وعمل على قتلهم.
ثم أنَّ أبا مسلم رفض الإذعان لأمر الخليفة حين وجه عمه عيسى بن علي سنة (132 هجري)، والياً على فارس، إذ أوصى محمد بن الأشعث بقتل والي الخليفة، إلا أنَّ محمداً تحرج من ذلك واكتفى بعزل عيسى بن علي، وأخذ منه يميناً وهو (أن لا يعلو منبراً ولا يتقلد سيفاً إلا في جهاد). وأخبر عيسى الخليفة بذلك، ولم يستطع الخليفة عمل شيء، وأمر عمه بالمقام عنده، فأقام.
وقد تعاظم نفوذ أبي مسلم الخرساني إلى درجة كبيرة، مما أدى إلى التصادم بين سلطة الخليفة ونفوذ أبي مسلم الخراساني، والأمثلة على ذلك كثيرة منها أن الخليفة عين منصور بن جمهور والياً على السند سنة (132 هجري)، فقام أبو مسلم بإرسال المغلس العبدي والياً على السند وطخارستان، وهذا يدل على مدى اعتداد أبي مسلم بقوته ونفوذه بإرساله والياً اختاره بنفسه مكان الوالي الذي عينه الخليفة، ودون أخذ موافقة الخليفة.
وقد كانت النتيجة أن تقاتل منصور بن جمهور مع المغلس العبدي، فاستطاع منصور قتل المغلس العبدي، ثم أعلن حركته على الخليفة وأبي مسلم من ذلك يلاحظ أنّ أبا مسلم كان يحاول أن يكون صاحب النفوذ الأوحد في بلاد فارس. لقد كان أخو الخليفة حازماً تجاه تلك المرونة التي اتبعها أخوه في التعامل مع أبي مسلم، ففي أثناء زيارة أبي جعفر لخراسان رأى ما فعل أبو مسلم بكبار الدعاة العباسيين، ومنهم الشيخ سليمان بن كثير وابنه محمد لمجرد الشك، ودون أخذ موافقة الخليفة وأخيه أبي جعفر الذي كان في خراسان.
لقد أثارت هذه الحادثة مرارة شديدة في نفس أبي جعفر على أبي مسلم وتبدو المرارة التي تركتها تصرفات أبي مسلم واضحة في نفس أبي جعفر من خلال قوله لأخيه أبي العباس حين رجوعه من خراسان: (لست بخليفة مادام أبو مسلم حياً، فاحتل لقتله قبل أن يفسد أمرك، فلقد رأيته، وكأنه لا أحد فوقه، ومثله لا يؤمن غدره ونكثه). من ذلك يظهر أن المنافسة بين أبي جعفر وأبي مسلم بلغت أوج عظمتها، من خلال إلحاح أبي جعفر على أخيه الخليفة بضرورة التخلص من أبي مسلم، لكن طلبه هذا لم يلقَ استجابة كافية من الخليفة، ويبدو أنَّ الخليفة رفض قتل أبي مسلم خوفاً من الخراسانيين أنصار أبي مسلم.
وفي عام (134 هجري)، خرج أبو مسلم بجيش كبير لغزو سمرقند، وقد أرسل جيشاً بقيادة أبي داود خالد بن إبراهيم وكان من فرسان العرب في خراسان، فقام بغزو ناحية كش، وقد استولى على الذخائر والتحف الصينية المرصعة بالذهب، وقد قدم بها إلى أبي مسلم بسمرقند، أما أبو مسلم فإنه بدوره اختزن هذه الغنائم عنده، ولم يرسل شيئأ منها إلى بيت مال المسلمين، ثم ذهب أبو مسلم إلى مرو بعد أن قتل عدداً من أهل الصغد وأهل بخارى، ثم استخلف زياد بن صالح الخزاعي على تلك البلاد، ورجع أبو داود إلى بلخ، ويرى الجومرد أن أبا جعفر لمّا عَلِمَ بهذا الحادث استغله لإثارة الخليفة أبي العباس.
وقد نجح في ذلك، إذ ملأ سمعه قبل هذا من أعماله وشروره على الدولة إن طال به المدى ويضيف الجومرد ويقول: لأول مرة نرى الخليفة أبا العباس يعمل ضد أبي مسلم، وقد دبر الخليفة أبو العباس مؤامرة لاغتيال أبي مسلم سنة (135 هجري)، باتباع الحيلة، ولكن فشلت تلك المؤامرة.
وبمرور الأيام بدأ أبو مسلم يزداد في خراسان سلطاناً وجاهاً، وكلما توطد سلطانه بخراسان زاد تحسب العباسيين منه، يقول الجهشياري: (فثقلت وطأة أبي مسلم على أبي العباس، وكثر خلافه إياه ورده لأمره)، لذا فقد حاول الخليفة أبو العباس التضييق على أبي مسلم والحد من نفوذه وتقليل سلطانه، حيث اتفق مع أبي الجهم بن عطية.
وقال له: أكتب إليه، وأشر عليه بالاستئذان في القدوم علينا لتجديد العهد بنا، فكتب إليه أبو جهم بذلك، فقبل رأيه، وكتب مستأذناً، فمنعه أبو العباس وقال له: خراسان لا تحتمل مفارقتك لها، وخروجك عنها، وتركه شهراً ثم قال لأبي جهم: أعد الكتاب بمثل ذلك فأعاده فكتب أبو مسلم مستأذناً، فمنعه، وفي المرة الثالثة أذن له ويبدو أن هذه المناورة جرت لجس نبض أبي مسلم ومعرفة ولائه وإحساسه اتجاه الخلافة وفيما إذا كان راغباً بزيارة العراق مقر الخليفة أم عازفاً عن ذلك متوجساً منه.
ويرى شلبي أن رفض أبي العباس لرغبة أبي مسلم مرتين كان المقصود به بعث الطمأنينة في نفس أبي مسلم، وجعله يحس بالرضا عنه وعن سيرته بخراسان وعدم حرص الخليفة على إبعاده عنها، وقد أدت هذه الخطة فعلاً إلى زرع الثقة والأمان في نفس أبي مسلم اتجاه الخليفة أبي العباس وأبعدت عنه المخاوف والشكوك، إذ كتب فعلاً إلى الخليفة أبي العباس بأنه سيمر على العراق وهو في طريقه إلى الحج في تلك السنة.
ففي سنة (136 هجري)، أراد أبو مسلم الحج، فطلب من الخليفة أبي العباس الإذن له بالقدوم للحج، فأذن له أبو العباس بذلك، ولكن يبدو أن الخليفة لم يأمن جانب أبي مسلم وتحركاته، إذ تدارك الموقف واحتاط لأمر، فكتب أبو العباس إلى أبي مسلم بأن بجلب معه (500) من الجند، فأجابه أبو مسلمة: (أني قد وترت الناس ولست أمن على نفسي).
فلذلك أضطر الخليفة أبو العباس أن يجبه، فرد عليه: (أقبل في ألف فإنما أنت في سلطان أهلك ودولتك وطريق مكة لا يحتمل المعسكر)، ولكن من ذلك لم يطع أبو مسلم أوامر الخليفة وهذا طبعاً يدل على اعتداده بقوته وسطوته، إذ جاء في ((8000 من الجند ووزعهم على الطريق بين نيسابور والريّ، وعندما وصل أبو مسلم العراق كان معه ((1000 من الجند ومعه الأموال والخزائن، فأمر الخليفة أبو العباس قواده وسائر الناس أن يتلقوه وأن يحسنوا استقباله، أما أبو العباس فإنه بدوره أكرمه غاية الإكرام، ويبدو أن الخليفة أبا العباس حدد لأبي مسلم عدد الجند الذين يقدم بهم ليقلل من جلال موكبه.
الأحداث التي جرت بين أبو مسلم وأبو العباس وأبو جعفر:
عندما دخل أبو مسلم على أبي العباس طلب منه الإذن بالحج فأجابه أبو العباس: (لولا أن أخي أبا جعفر قد عزم على الحج لوليتك الموسم)، ويبدو أنَّ أبا مسلم غضب لذلك إذ همس قائلاً: (أما وجد أبو جعفر سنة يحج فيها إلا هذه السنة التي حججت فيه). ثم إنَّ أبا مسلم عد هذا العمل امتهاناً لقدره، متناسياً مكانة أبي جعفر باعتباره ولياً للعهد.
هناك احتمالان للإجراء الذي قام به أبو العباس ضد أبي مسلم، الأول أن أبا جعفر عندما سمع بأن أبا مسلم سيحج هذه السنة طلب من أخيه أن يكون هو الأمير على الحج لتلك السنة، وذلك لموقف أبي جعفر المعادي من أبي مسلم وللمنافسة الحادة بين هاتين الشخصيتين حيث كانت المنافسة بين الاثنين تدور في الخفاء وهي منحصرة في البلاط العباسي فقط، والاحتمال الثاني حينما استأذن أبو مسلم أبا العباس في القدوم عليه للحج وأذن له، أدرك أنه من الطبيعي أن يكون أبو مسلم أمير الحج في ذلك العام، ولكنه لم يرد أن يمنحه هذا الشرف لأن إمارة الحج كانت شرفاً لمن يتولاها، ويبدو أن هذا الرأي أرجح، خاصة أن أبا العباس رأى أن إمارة الحج ستؤدي حتماً إلى رفع نفوذ أبي مسلم ومكانته بين الناس أكثر من السابق، فندب أخاه أبا جعفر ليكون أميراً على الحج.
ويبدو أن زيارة أبي مسلم للبلاط العباسي وهو في طريقه إلى مكة كانت لغرض ما في نفس أبي مسلم، إذ أنه كما يؤكد الدكتور فاروق عمر أراد أن يظهر قوة نفوذه لرجال البلاط والخليفة، وإلا فليس من المعقول أن أبا مسلم فشل في إدراكه لحراجة الموقف السياسي، وعلاقته بالسلطة المركزية آنذاك.
ولابد من الإشارة إلى أن أبا جعفر (كما ذكرنا سابقاً)، قام بتحريض أخيه الخليفة أبي العباس ولمرات عديدة ضد أبي مسلم، وأشار عليه بضرورة التخلص منه فقد عده خطراً على الخلافة العباسية، وقد وجد أبو جعفر هذه المرة ومن خلال زيارة أبي مسلم للبلاط العباسي أن الفرصة أصبحت مناسبة للتخلص من منافس خطير، إذ أنه أصبح الرجل الوحيد القوي في الدولة آنذاك والذي يخشى نفوذه.
فقام أبو جعفر بتحريض أخيه أبي العباس على ضرورة قتل أبي مسلم والتخلص منه، فقال أبو جعفر لأخيه العباس: (يا أمير المؤمنين أطعني واقتل أبا مسلم، فوالله إن في رأسه لغدرة). ولكن أبا العباس ذكر أبا جعفر بجهود أبي مسلم في الدعوة وفي تأسيس الدولة، وما كان يتمتع به من نفوذ في نفوس أهلي خراسان، حيث قال: (يا أخي قد عرفت بلاءه وما كان منه)، فقال أبو جعفر: (إن كان بدولتنا والله لو بقيت سنوراً لقام مقامه وبلغ ما بلغ في هذه الدولة).
فسأله أبو العباس إذن كيف السبيل إلى قتله فأجابه: (إذا دخل عليك وحادثته وأقبل عليك وخلت فتغفلته فضربت من خلفه ضربة أتيت بها على نفسه)، قال أبو العباس: (فكيف بأصحابه الذين يؤثرونه على دينهم ودنياهم). قال: (ليؤول ذلك كله إلى ما تريد، ولو علموا أنه قتل تفرقوا وذلوا). قال أبو العباس: (عزمت عليك ألا كففت عن هذا). قال: (أخاف والله إن لم تتغده اليوم يتعشاك غداً). قال: (فدونكه، أنت أعلم). لقد كادت عملية اغتيال أبي مسلم أن تتم، لو لا أن الخليفة أبا العباس عدل عن تنفيذ فكرة قتل أبي مسلم في اللحظة الأخيرة، إذ أوعز إلى أخيه بترك الفكرة وعدم تنفيذها.
ويذكر الدكتور العاني بأن رأي الخليفة أبا العباس أصوب من رأي أخيه أبي جعفر في هذه المسألة إذ ساوره إحساس بإرجاء قتل أبي مسلم إلى ظرف أكثر ملاءمة من الظرف الذي هو فيه، إذ رأى ببعد نظره أن التسرع في هذا الموضوع بالذات في ذلك الظرف الحرج قد يترتب عليه من القلاقل ما يعرض أمن الدولة وسلامتها للخطر، ويبدو أن الخليفة أبا العباس كان جريئاً في موقفه هذا لأن الدولة في بدايتها وبحاجة إلى من يؤازرها في ذلك الظرف العصيب.