اقرأ في هذا المقال
توسيع سلطة أبي مسلم ونفوذه في خراسان:
لقد كان على أبي مسلم الخراساني أن يثمن الثقة التي وضعها فيه الخليفة، ولكنه على العكس استغل ذلك وبدأت العقدة الفارسية تظهر في تصرفاته وسياساته اتجاه رؤوس العرب وكبار الدعوة في خراسان أولأ، واتجاه الخلافة العباسية في بغداد ثانياً.
فعندما عينه الخليفة أبو العباس على خراسان عمل على التخلص من جميع منافسيه من الدعاة وشيوخ القبائل ومنهم سليمان بن كثير الخزاعي، الذي كان وراء كل عمل مثمر قامت به المنظمة السرية الهاشمية في خراسان، وقد كان الصراع قد نشب بينه وبين أبي مسلم قديماً ولذلك كان لا بدّ أن تظهر الحزازات مرة ثانية بعد نجاح الثورة، حيث أن ولاية خراسان لا تحتمل بقاء الاثنين معاً.
لقد برر أبو مسلم قتله سليمان بن كثير بأنه كان يشك في نوايا سليمان وبتآمره ضد السلطة، وأنه قتله مستنداً بذلك على أوامر إبراهيم الإمام له إذ قال له (أي لسليمان): أتحفظ قول الإمام لي: من اتهمته فاقتله؟ قال: نعم؛ قال: فإني قد اتهمتك، قال: ناشدك الله، قال: لا تنشدني الله، فأنت منطوٍ على غش الإمام، ويبدو من ذلك أنَّ أبا مسلم اتخذ من وصية إبراهيم الإمام له ذريعة للتخلص من منافسية.
وفي رواية أخرى للبلاذري، أنَّ سليمان بن كثير اتصل بأبي جعفر عبد الله بن محمد حين قدومه خراسان واتفق معه على التخلص من أبي مسلم، إذ قال سليمان لأبي جعفر: (إنما كنا نحب إتمام أمركم وقد تم بحمد الله ونعمته، فإذا شئتم قلبناها عليه).
ويمكن القول أنه هناك احتمالين حول سبب مقتل سليمان بن كثير: الأول يعود إلى العداوة الدفينة بين سليمان وأبي مسلم وتذمر سليمان من نفوذ أبي مسلم إضافة إلى أن سليمان كان ينافس أبا مسلم في الزعامة على خراسان لقدمه في الدعوة ولسلطته على القبائل اليمانية والربعية خاصة، والثاني ربما يعود إلى أنَّ سليمان كان قد استصغر من شأن أبي مسلم لمّا وفد إلى خراسان، وذلك حين اجتمع بالكفية، إذ قال لهم: حفرنا نهراً بأيدينا فجاء غيرنا (يعني أبا مسلم) فأجرى فيه الماء).
فوصل الخبر إلى أبي مسلم، وقد صادف أن شهد عليه نفر من الناس، بأنه أخذ عنقود عنب أسود وقال: (اللهم سود وجه أبي مسلم كما سودت هذا العنقود واسقني دمه). وهذا ما يؤكد تنافس الرجلين، وإنَّ أبا مسلم أراد أنّ يكون الرجل الوحيد القوي في خراسان الذي ليس له منافس. أما الدكتور فاروق عمر فيرى بأنه ربما انتهز سليمان فرصة زيارة أبي جعفر فتشاور معه في أمر التخلص من أبي سليمان، ثم أنه ربما عرف أبو جعفر من سليمان مدى النفوذ والسلطان الذي أصبح فيه أبو مسلم وقتله لعدد من الدعاة العباسيين فحاولا أن يتداركا الأمر حرصاً منهم على سلامة الخلافة العباسية.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنَّ أبا مسلم قتل سليمان الخزاعي دون أخذ موافقة الخليفة أبي العباس والأمير أبي جعفر الذي كان موجوداً في خراسان مما أدى إلى غضبه الشديد عليه، ولكنه كتم ذلك، وهذا يدل على اعتداد أبي مسلم بمركزه وقوة نفوذه بحيث لم يعد يهتم برأي الخليفة أبي العباس بالعراق، فقد اكتفى بأن كتب إلى الخليفة يعلمه بقتله سليمان فلم يجبه على كتابه. مما يدل على غضب الخليفة أبي العباس وعدم رضاه عن أبي مسلم.
الاضطرابات السياسية في خراسان وموقف أبي مسلم الخرساني:
لقد واجه أبو مسلم حركات عديدة بعضها كانت من تدبير السلطة المركزية والخليفة للقضاء عليه والتخلص من نفوذه المتعاظم، وبعضها كانت تمردات ضد سياسته التعسفية أو ضد الخلافة ككل. ومن هذه التمردات تمرد شريك بن شيخ المهري عام (133 هجري).
وهو أحد الدعاة العباسيين، وقد بدأ حركته في مدينة بخارى أعظم مدن ما وراء النهر وأجلها ناقمأ على سياسة أبي مسلم الخراساني القائمة على البطش والشدة والعنف، رافعاً شعار: (ما على هذا اتبعنا آل محمد، على أن نسفك الدماء ونعمل بغير الحق). وقد انضم إليه عدد كبير من العناصر المستاءة، ولهذا أرسل أبو مسلم الخراساني القائد الخراساني زياد بن صالح لقتال شريك فتمكن من القضاء على حركته وقتله.
كما أعلن منصور بن جمهور حركته وعصيانه على الخليفة أبي العباس وممثله أبي مسلم الخراساني، وذلك لأن أبا مسلم قام بإرسال والياً على السند، على الرغم من أنَّ الخليفة أبا العباس كان قد عين منصور بن جمهور والياً عليها، لذلك أرسل الخليفة العباسي سنة (134 هجري)، القائد موسى بن كعب التميمي إلى السند في ((12 ألف مقاتل، لقتال منصور بن جمهور، فاستطاع أنّ يقضي على حركة منصور الذي انهزم هو وقسم من أتباعه فمات عطشاً في الصحراء.
لقد استغل الخليفة أبو العباس القائد الخراساني زياد بن صالح الخزاعي، الذي ارتفع نجمه بعد قضائه على حركة شريك المهري للعمل ضد أبي مسلم، وقد شجعه على ذلك التنافس الذي بدأ يدب بين أبي مسلم وزياد. لذلك يمكن القول أن تمرد زياد بن صالح على أبي مسلم أمر قد دبر في البلاط العباسي لاغتيال أبي مسلم، وذلك حين أرسل الخليفة أبو العباس سباع بن النعمان الأزدي، وأمره باغتيال أبي مسلم إذا سنحت له الفرصة، وفي الوقت نفسه حرض الخليفة زياد بن صالح الخزاعي على إعلان حركته ضد أبي مسلم، وأرسل له عهده بولاية ما وراء النهر بيد سباع الأزدي فامتثل زياد لهذا الأمر.
وفي سنة (135 هجري)، تمرد زياد بن صالح الخزاعي في بلاد ما وراء النهر ضد أبي مسلم. ورفع شعار: (إنما بايعنا على إقامة العدل وإحياء السنن وهذا جائر ظالم يسير سير الجبابرة، وإنه مخالف له قد أفسد عليه قلوب أهمل خراسان). ولكن حركته هذه فشلت بعد أن انحاز جماعة من قواده إلى أبي مسلم نتيجة لذلك هرب زياد الخزاعي حتى وصل إلى دهقان بخارى، الذي استطاع أنّ يقتل زياداً، وقد سلم رأسه إلى أبي مسلم، ولمّا علم الخليفة بفشل هذه المحاولة، أرسل إلى أبي مسلم مهنئاً بانتصاره على المتمردين ونجاحه في تثبيت نفوذ السلطان العباسي.
وعندما قتل أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعي، تمرد عيسى بن ماهان، الذي كان من الأصدقاء المخلصين لزياد الخزاعي، ورفع صوته أمام الناس قائلاً: (إن أمير المؤمنين قد أعظم قتل زياد، وذم أبا مسلم وأنكر فعله وقال: إنه قتل رجلاً ذا قدم وبلاء حسن في دولتنا وبرئ منه، وقد عهد إلي بعهدي على خراسان).
ويظهر من ذلك أن عيسى بن ماهان كان يهدف من قوله تحريض الناس على أبي مسلم، ثم ادعى أمام الناس أنَّ الخليفة أبا العباس عينه والياً على خراسان بدل أبي مسلم، لذلك تمكن أبو داود خالد بن إبراهيم الذهلي وبأمر من أبي مسلم أن يقتل عيسى بن ماهان. وعندما سمع الخليفة أبو العباس بخبر مقتل عيسى بن ماهان استعظم ذلك العمل، وطلب من أبي مسلم قتل خالد الذهلي، ولكن أبا مسلم أرسل جواباً للخليفة يدل على فطنة وذكاء ودهاء، فلم يتخذ أي إجراء بحق خالد الذهلي.
لقد خرج أبو مسلم الخراساني من الأزمة مع الخليفة أبي العباس سلمياً ونجح في قهر جميع منافسين له داخل خراسان، أو الذين أرسلتهم الخلافة للحد من نفوذه والتخلص منه، ولهذا فقد انفسح له المجال لفرض سيطرته ونفوذه على خراسان بأجمعها، وأصبح الشخص الوحيد القوي في خراسان والذي أصبح فيما بعد شوكة في عين الخلافة العباسية.