حركة المازيار في عهد المعتصم:
ما كانت دولة الخلافة العباسية تتخلص من المشاكل التي كانت تحدث لها كحركة بابك الخرّمي في الأماكن الواقعة إلى الغرب من بحر قزوين، حتى واجهت ضدها حركة فارسية أخرى، تشكلت في حركة المازيار بن قارن وهو يعد آخر الأمراء القاريانيين بطبرستان الذي شكل من دولته مسرحاً لنشاطه الثوري المُعادي للدولة. اعتنق المازيار الإسلام وتسمى باسم محمد وولاه المأمون على طبرستان ورويان ودنباوند ولقبه الأصبهذ.
ولا بُدّ أنه كان ذا نزّعات مستقلة، فأراد الفصل عن جسم الدولة. فاغتنم فرصة الخصومة بين الطاهريّين، الذينَ كان يحقد عليهم، وبين الأفشين الطامع في ولاية خراسان ليرفع راية الثورة. وكان هذا الأخير قد كاتب المازيار وشجعه على إعلان العصيان على حكمهم، آملاً أن لا يتمكن هؤلاء من إخضاعه، فيتخذ عندئذ ذلك ذريعة لانتزاع خراسان منهم.
لكن هذه العلاقة بين الأفشين والمازيار لم تكن بهذه السطحية وأن الصلة التي جمعت الرجلين بعيدة الغور عميقة الجذور. فقد اعترف المازيار بأن الأفشين حوّضه على الخروج والعصيان لمذهب اجتمعوا عليه، ودين اتفقوا عليه من مذاهب الثنوية والمجوس، كما كان المازيار يُكاتب بابك، ويعرض عليه المساعدة، والراجح أنه كان على مذهب الخرّمية.
ذلك المذهب الذي أصبح يشكل ثورة انتفاضة الفارسية ضد خليفة العباسيين وضد المجتمع الذي نشأوه، وأن قامت بتحريك بابك هي النتيجة التي تكبدته على العصيان، بشكل خاص إذا أنهُ كان جديد العهد بالإسلام، أي إن هذه الدوافع كانت مزيجاً من الدوافع السياسية والعنصرية والدينية.
ونستنتج أن التدابير التي قام بها المازيار بعد إعلان حركته، على انتفاضة الخرّمية الاشتراكية. إذ أراد مُصادرة الأراضي من الملاكين وتوزيعها على الفلاحين، ولهذه النزعة معنى سياسي إلى جانب المعنى الاقتصادي خاصة إذا علمنا أن قسماً كبيراً من الملّاكين كانوا من العرب ومواليهم.
لذلك أصدر أوامر المازيار عماله على سرخستان بأن يُكون (260) من أبناء القادة ويسلمونهم إلى الفلاحين ليقوموا بقتلهم باعتبارهم أُناساً يُشكلون سبباً خطيراً كما أمر بإعدام أرباب الضياع، واستباح لهم بيوتهم وحُرمهم، في محاولة هدفها ضم قوى الطبقات العامة ودفعها للتتخلص من السلطان العربي.
وقد توقف الخليفة على عوامل هذه الثورة، حينما قام عبد الله بن طاهر بضبط واكتشاف رسالة من الأفشين إلى المازيار، وبعد أن حصل هو على الرسائل الأخرى من المازيار نفسه. والواضح أن هذه الحركة وُلِدت ميتة، ذلك أن توقيت إعلانها في عام (224 هجري)/(839 ميلادي)، لم يكن مناسباً. فقد كانت دولة الخلافة العباسية آنذاك في وضع مستقر، وعلى درجة عالية من القوة، وذلك بعد أن تخلصت من العديد من الحركات المعادية التي قامت في وجهها، وبالتالي فإن القضاء على حركة المازيار لم يكلفها الكثير من الجهد. أما نهاية المازيار فقد كانت شبيهة بنهاية بابك حيث قتله الخليفة، ثم صلبه إلى جانب بابك.
ظهور العنصر التركي:
تم مبايعة المعتصم بالخلافة في وقت من ظروف الصراع العنيف الذي حدث بين العرب من جهة، والفرس الذين كسبوا بعطف المأمون خلال السنوات الأولى الماضية من خلافته، من جهة أخرى، واختلال في التوازنات بين العناصر التي تكونت منها الدولة العباسية. فقد ساءت العلاقات بين العباسيين والخراسانيين منذ انتقال المأمون من مرو.
وظهر نتيجة ذلك في إنهاء حياة علي بني سهل وإنشاء (الحركات المُناهضة للدولة) ذات طابع فارسي، وبسبب صعب توافق بين نظرة الخراسانيين ومصالح العباسيين. وقد ظهرت ثقة المعتصم بالفرس تضعف. ومن جهة أخرى، لم يعتمد خليفة المعتصم إلى العنصر العربي. ولم يكن على ثقة تامة بالعرب، نظراً لكثرة تقلبهم واضطرابهم، وقيامهم ضد الخلفاء، بالإضافه إلى أن هؤلاء فقدوا كثيراً من مقومات قوتهم السياسية والعسكرية فأصبحوا أقل خطورةً وأضعف شأناً.
شكلت هذه إمكانيات المعتصم على أن يُوكل أمر سلامته الشخصية إلى فريق من العناصر الأتراك، وقد توافقت طِباعه النفسية وصفاته البدنية من حيث القوة والشجاعة ومتانة الجسم، مع صفات أخواله الأتراك كأُمة عنيفة محاربة شديدة البأس. وأضحى لهذا العنصر أثر كبير في الحياة السياسية والاجتماعية بالرغم من أن الأتراك لم يكونوا أهل حضارة عريقة. وأصبح الحرس التركي يمثل دعامة من دعائم الخلافة أيام حكمه.
والواقع أن الأتراك نفذوا إلى المجتمع الإسلامي منذ العهد الأموي على أثر الفُتوحات الإسلامية لبلاد ما وراء النهر، لكن لم يكن لهم أي تأثير سياسي في المجتمع الإسلامي. إلا أن هؤلاء وقد دخلوا في صميم الحياة الإسلامية منذ العهد العباسي، وبدأ عددهم يتزايد، أخذوا يظهرون على مسرح الأحداث في بغداد ظهوراً واضحاً، منذ عهد المأمون الذي استخدمهم في الجيش، ليُحقق نوعاً من التوازن بين العنصرين العربي والفارسي.
وتلقف المعتصم هذه العصبية الجديدة النامية لاستغلال مواهبها العسكرية للحفاظ على دولته، والإبقاء على خلافته، في ظل الصراع العربي – الفارسي. فاستخدم الأتراك في الجيش على نطاق واسع، وجعلهم تحت إمرة قادة منهم، مسدّداً بذلك ضربة عنيفة للقادة وللجند العرب ولسياسة المنصور التقليدية التى كانت تستهدف حفظ التوازن في الجيش بين الفرق الأعجمية والفرق العربية.
أما من حيث مصادرهم هؤلاء الأتراك، فقد جمعهم المعتصم من مناطق ما وراء النهر، مثل سمرقند وفرغانة وأشروسنة والشاش وخوارزم، وكان ذلك بعدة طرق منها عن طريق النخاسة، أي الشراء، ومنها عن طريق الأسر في الحروب، ومنها عن طريق الهدايا التي كان يؤديها ولاة هذه الأقاليم على شكل رقيق إلى الخليفة. ومن ثم أضحت بلاد ما وراء النهر مصدراً هاماً للرقيق التركي.
ومكَّن المعتصم للأتراك في الأرض، فقرّبهم إليه، وخصَّهم بالنفوذ، وقلّدهم قيادة الجيوش، وجعل لهم مركزاً في مجال السياسة وأسكنهم سامراء التي بناها خصيصاً لهم. ومن جهة ثانية، حرم العرب مما كان لهم من قيادة الجيوش، ثم أسقط أسماءهم من الدواوين، وقطع أُعطياتهم. كان لأهداف المعتصم هذه أهداف آنية وبعيدة.
فمن حيث الأهداف الآنية، فقد أزعجت هذه السياسة العرب، فانفروا من على سلطة المعتصم، كما خططوا لمؤامرة قتله بقيادة عجيف بن عنبسة والعباس بن المأمون، لكن خطة المؤامرة باتت بالفشل. وكانت رد المعتصم أنه قام بالتخلَّص من العباس في الوقت الذي توفي فيه عجيف، ثم أقصى العرب والفرس تدريجياً وأسقطهم من ديو ان العطاء.
ومن حيث النتائج البعيدة، فلقد نتجت عن هذه السياسة حدوث أضرار بالغة، وخطيرة على دولة الخلافة العباسية، إذ خرجت بها عن مسارها العربي – الفارسي، وعملت على إضعاف سلطة الخليفة، وربما كان نشوء الدول الانفصالية، في مختلف أرجاء الدولة اعتباراً من العصر العباسي الثاني أحد هذه التتائج، لكنها لم تظهر بوضوح في عهد المعتصم، وسوف تنجلي فيما بعد، مُنذ مقتل المتوكل في عام (247 هجري)/(861 ميلادي).
القضاء على الأفشين:
انتهز بعض القادات الأتراك في الدولة العباسية، مكانتهم وسلطتهم ونفوذهم في البلاط ليُلبوا طموحهم نحو انفصالهم عن الدولة. وكان من بين هؤلاء الأشخاص الذين قاموا بنزعات استقلالية، القائد التركي الأفشين الذي أراد تأسيس دولة انفصالية له في أشروسنة. فراح يمهد طريق الوصول إلى هدفه بالخطوات التالية:
- تمكن من استقطاب السكان، حتى يتركوا الوالي العباسي ويلتفوا حول دعوته.
- حاول إزاحة والي خراسان عبد الله بن طاهر الذي وقف في وجهه.
- حرَّض كلا من المازيار ومنكجور الفرغاني بالحرب على سلطة المعتصم.
خسر الأفشين في تحقيق هدفه التي كان يخطط لها، بعد أن انكشفت خططه. فقام الخليفة بتغيير سياسته نحو اتجاهه، وأدرك من جانبه هذا التغير مما دفعه إلى التفكير بالتخلص من الخليفة نفسه، لكن قُبِضَ عليه وحاكمه المعتصم. لكن محضر المحاكمة لم يشر إلى المؤامرة، وإنما هي مجموعة تُهم أريد بها إثبات أن الأفشين لم يعتنق الإسلام حقيقة، ولا يزال يتعصب للمجوسية، ويسعى للقضاء على دولة الخلافة العباسية. ولعل هدف المعتصم، كان منع تسرب النفرة والشك إلى القادة الآتراك الآخرين. وتوفي الأفشين في سجنه في عام (226 هجري)/(841 ميلادي).