روبيرت ميرتون وسوسيولوجيا العلوم في علم الاجتماع:
دخل ميرتون مهنة السوسيولوجيا في فترة كانت تهيمن فيها على السوسيولوجيا الأمريكية شخصيتان، بول لازارسفلد، ممثل السوسيولوجيا الأمبيريقية، وتالكوت بارسوز، المدافع عن السوسيولوجيا النظرية، حيث اهتم ميرتون بمكاملة وبتجاوز هذين الجانبين، في كتابه عناصر النظرية والمنهج السوسيولوجي، الذي أصبح كلاسيكياً، يطرح بدعابة، التعارض بين هذين التيارين.
هناك كما يقول الأمبيريقيون المهمومون بصلاحية المعطيات وبتدقيق الوقائع، ثم هناك المنظّرون الجسورون في صياغة التعميمات الكبرى، تقول الفئة الألى نعلم أن هذا صحيح، لكن نجهل فيما إذا كان له معنى، وتقول الثانية، نعرف أنّ لذلك معنى، لكن نجهل فيما إذا كان صحيحاً، بذل ميرتون جهده إذن في تبيان التأثير المتبادل بين النظرية والبحث الأمبيريقي.
إنّ تأملات ميرتون تفضي إلى سوسيولوجيا المعرفة، وهي تيمة سيقدم فيها مساهمة عظيمة، كان الشاب ميرتون قد حصل عام 1836 على دكتوراه في الفلسفة حول موضوع الثورة العلمية في إنكلترا خلال القرن السابع عشر، ومن خلال دراسته لنتائج فريق من العلماء الأعضاء في الجمعية الملكية، لاحظ أن هؤلاء العلماء كانوا جميعهم بروتستنت طهريين، ومن المنظور ذاته الذي أظهر فيه الصلات بين البروتستنتية والرأسمالية الوليدة، دعم ميرتون في أطروحته أن انطلاقة العلوم يمكن أن تعزى جزئياً على الأقل، إلى القيم التي يحملها الطهريون البروتستنت.
وفي عام 1942 عاد ميرتون إلى موضوعه المفضل وحدد القيم المناسبة للذهن العلمي، وبدت له أربعة مبادئ أساسية وهي الكونية التي تقبل بأن المعارف العلمية مستقلة عن الأفراد وآرائهم وثقافتهم أو قوميتهم أو دينهم، والنزعة الجماعية أو المشتركة التي تدافع عن فكرة تقاسم المعرفة في قلب الجماعة، والنزاهة التي تفترض أن العالم يعمل من أجل المعرفة الخالصة، وأنّه مستقيم وأمين تجاه النتائج التي يقدمها، وأخيراً النزعة الشكية التي تتبني موقفاً نقدياً وتشكيكاً ملائماً لتقدم المعرفة.
إنّ احترام هذه القيم يضمن، بحسب ميرتون انتشار معرفة موضوعية، عقلانية وصارمة، لا يفسر الذهن العلمي بالحركة الطبيعية للفكر وحدها، ولم يتمكن من الظهور إلا ضمن سياق اجتماعي وثقافي ملائم، لم تبق أخلاق العلم هذه محصورة بالبروتستنتية، بل أصبحت معيار كافة الفرق العلمية التي تشكل منظومة اجتماعية ثانوية مستقلة عن بقية المجتمع، وفي الواقع يلاحظ ميرتون أنّه في البلدان التي لا تحترم فيها قواعد استقلالية العلم، وحيث يخضع العلم إلى الدين التيوقراطية، وإلى السياسة الأنظمة الشمولية، لا يتمكن العلم من التطور الحقيقي، وبهذا الشكل أطلق ميرتون حقلاً جديداً في السوسيولوجيا، هو سوسيولوجيا العلوم.