سامراء عاصمة جديدة للخلافة العباسية

اقرأ في هذا المقال


سامراء عاصمة جديدة للخلافة العباسية:

أجمع جل المؤرخين القدامى على أنّ انتقال الخليفة المعتصم من بغداد واختياره سامراء كان لأسباب عسكرية؛ ذلك أنَّ وجود الفرق التركية الجديدة وغيرها في بغداد، خلق مشاكل مع أهل بغداد، لكون هؤلاء الأتراك كانوا من البدو ويحترفون الفروسية، فيتراكضون في طرقات بغداد، فيتأذى الناس منهم، ويضطر بعضهم إلى قتل بعض الجند أو ضربهم لهذا السبب اشتكى الجند من تصرف أهل بغداد واشتكى أهل بغداد أيضاً من وجودهم، عندها قرر الخليفة الابتعاد عن بغداد واختيار سامراء، ونقل إليها جنده، ولذلك سُميت سامراء في أول أمرها بـ (العسكر).

ويظهر من بعض الروايات أنّ الخليفة أوفد الكاتب أبو الوزير أحمد بن خالد عام (219 هجري)، لشراء موضع في سامراء، فاشترى أحد الأديرة وبستاناً ومواضع أخرى، وتحول الخليفة إليها في أواخر عام (220 هجري)، بعد أن بقي في القاطول لفترة تزيد على ثلاثة أشهر.

وفي رواية أنّ الخليفة الرشيد كان قد حفر نهر في القاطول، وبنى ابنه أبو إسحاق (المعتصم) قصراً في تلك المنطقة فلمّا ضاقت بغداد عن عساكره كان هذا الوضع على خاطره، فرحل إليه، وبنى عنده مدينته في حين أنَّ رواية أخرى تذكر أنَّ الخليفة بنى في القاطول في بادئ الأمر، ثم ركب متصيداً، وتنقل في عدة أمكنه حتى صار إلى موضع سامراء، على أنّه يجب أن نشير إلى أنَّ الرشيد سبق ابنه المعتصم بوقت ليس بالقليل في التفكير في اختيار عاصمة جديدة والابتعاد عن بغداد، فاختار (الرقة) مقراً له.

إنَّ الابتعاد عن بغداد من قبل الخليفة الرشيد لم يكن بسبب الجند التركي، وهذه الأسباب ربما تكون هي نفسها التي حملت الخليفة المعتصم إلى اختيار سامراء والابتعاد عن بغداد، يقول ابن الفقيه الهمداني أنَّ المعتصم انتقل إلى سامراء لسببين أحدهما تبعيداً لمواليه الأتراك عن أبناء الدعوة من أهل مدينة السلام، والثانية أنَّ ما بين عكبرا وآخر ديار ربيعة، إنما هو منازل الشراة، فأراد أن ينزل في وسط ديارهم فيشرد بهم ويدفع عاديتهم.

وقد يكون من المناسب أن نذكر بأن بغداد كانت مهددة بخطر الفيظان وذلك منذ عام (215 هجري)،‏ يذكر الأزدي وزاد الماء هذه السنة (215 هجري)، زيادة مفرطة في دجلة. وفي رواية أنَّ الخليفة المعتصم حاول التحرك من بغداد عام (219 هجري)، إلا أن زيادة الماء في دجلة أيضاً جعله يصرف النظر عن مشروعه، ويؤكد الطبري هذه الرواية فيقول: (إن المعتصم خرج يريد البناء بسامراء، فصرفه كثرة زيادة دجلة فلم يقدر على الحركة، ولعل خطر الفيضان من الأسباب التي حملت الخليفة المعتصم إلى الابتعاد عن بغداد واختيار سامراء بالذات، لكونها تقع في أراض تؤلف جرفاً يرتفع عن مستوى النهر عدة أمتار مما يجعلها في مأمن من خطر الفيضان.

ولو تتبعنا خطوات المعتصم منذ أن غادر بغداد وحتى استقراره في سامراء، نرى غرضه واضحاً في جعل المدينة مركزاً إدارياً للموظفين وجعلها للدولة العباسية، فلم يكن هدفه أن تكون معسكراً للجيش ولو تتبعنا خط سير الخليفة المعتصم بعد خروجه من بغداد، لوجدنا أنَّ المناطق التي وقف فيها الخليفة للراحة والصيد تصلح أن تكون مُعسكراً للجيش، لكنها لا تصلح أنّ تكون مدينة فيها معسكر للجيش فضلاً عن دور القواد والكتاب والموظفين، والناس والأسواق.

تخطيط مدينة سامراء:

إنّ موقع سامراء يمتاز بمساحته الواسعة، يقول المسعودي: (فنظر المعتصم إلى فضاء واسع تسافر فيه الأبصار)، فبالإمكان التوسع في البناء توسعاً كبيراً دون أن يضيق المكان، وقد بلغ طول البناء زمن الخليفة المعتصم زهاء أربعة فراسخ (في حدود 9 كيلومتراً)، وفي رواية ما يشير إلى هدف الخليفة بجعل سامراء عاصمة فيقول: (ونقلت إليها الدواوين والعمال وبيوت الأموال)، ومما شجع المعتصم على اختيار سامراء ما ذكره الاصطخري من أنَّ هواءها وثمارها أصح من بغداد.

ومما يجدر ذكره أننا لا نجد في سامراء التأكيد على بناء الأسوار لتكون المدينة مُحصنة يقول ابن الفقيه: (أنَّ سامراء ضاحية لا سور يحصنها ولا خندق يمنعها)، إلا أنَّ المديئة تمتاز بموقع استراتيجي هام، فهي مُحاطة بالمياه من كل جانب، فشكلت هذه المياه سوراً دفاعياً للمدينة.

ولقد خطط المعتصم والخبراء معه المدينة تخطيطأً سليماً فيه الكثير من الابتكار، فجعلها خمسة شوارع رئيسة متوازية على طول المدينة (من جنوب المدينة الحالية وحتى شمالها)، وفتحت شوارع فرعية على جانبي الشوارع الرئيسة، وتم عزل أهل الحرف والصناعات والتجار بأسواق خاصة بهم، والأهم من ذلك جعل الفرق العسكرية معزولة عن المدينة، واهتم الخليفة بالقادة العسكريين فخصص لهم أرض داخل المدينة وبالذات أهل خراسان والعرب، يقول اليعقوبي: (وجعلت الشوارع لقطائع قواد خراسان وأسبابهم من العرب)، وفي مناسبة أخرى يذكر: (ثم قطائع قواد خراسان وأسبابهم من العرب). مما يدل على أهميتهم في تلك الفترة.

ومن الملاحظ في بناء سامراء أن الخليفة اهتم بجعلها مركزاً للصناعات المهمة، فاستقدم من كل بلد العمال والفنيين وأسكنهم مع عوائلهم في سمراء. لقد ألزم الخليفة كل قائد مع جنده بتحمل مسؤولية العمل والمساهمة في البناء، وفي رواية أن الخليفة أعطى النفقات في بناء دورهم، فليس من المستغرب إكمال بناء المدينة في هذه السرعة العجيبة.

لقد خصّص الأراضي الواقعة على الضفة الشرقية لنهر دجلة لتكون بساتين وحدائق، بعد أنّ أقام جسراً ربط ضفتي النهر، وبذلك عمرت هذه المنطقة بسرعة هائلة ويعزو اليعقوبي السبب إلى أن الأراضي كانت مستريحة ألوف السنين فزكا كل ما غرس فيها وزرع بها.


شارك المقالة: