اقرأ في هذا المقال
سيطرة الجند على مقدرات الدولة العباسية:
لم يكن هناك جند دائمون أيام رسول الله والخلفاء الراشدين، رضوان الله عليهم، وإنما يهرع المسلمون للانخراط في صفوف الجيش المنطلق للجهاد كلما دعا الداعي، ويُّعيّن الخليفة لهم أميراً يطيعونه في غير معصية. والأمير بدوره يختار قادة الجناحين، والقلب، والساقة، ويبثّ
العيون وهكذا. كما يكون حول الخليفة عدد من الأفراد ينفذون أوامره في الحدود، وأمور الحسبة. وقد يكون لزعماء القبائل دور في مساعدة الخليفة أو الأمير، وفي تنفيذ ما يُطلب منهم لإلقاء القبض على بعض رجالاتهم إن دعت الحاجة إلى ذلك، ولم تدع في تلك الأيام.
وحرص عُمر الفاروق، رضى الله عنه، ألا يندمج المجاهدون (الجند) بسكان المدن كي لا يحدث الراحة، ويميلوا إلى الدعة. فأمر أن يقيموا في معسكرات خاصة بعيدة عن المُدن، ونشأت نتيجة ذلك مدن البصرة، والكوفة، والفسطاط. ولعلنا نرى اليوم أثر الجند في المدن عندما يختلطون بالأهالي، وما ينتج عنه من تعدي الجند، وغطرسة الضباط، وأثر ذلك أيضاً على الناحية الأمنية.
الرخاء الذي عم في العصر العباسي:
لم يختلف الأمر كثيراً في العهد الأموي والعصر العباسي الأول عمّا كان عليه في صدر الإسلام، ما دامت توجد فتوحات أو غزوات على الأقل، وما دام الخلفاء أقوياء، وللحكم هيبة. فلمّا توقفت الفتوحات، وقل الغزو، وضعُّف الخلفاء. وذهبت هيبة السلطة اختلف الأمر تماماّ إذ لم يعد هناك جند للجهاد، وبدأت حركات التمرّد تحدث، ولم يجد المسلمون دائماً ضرورةً للتطوع في سبيل القضاء عليها حتى يُلزموا إلزام.
كما أن السكان قد مالوا إلى الرخاء بسبب كثرة الأموال التي وردت عليهم، وقيام الرقيق بشؤونهم وأعمالهم، لذا كان على الخليفة أن يجد له جُنداً يساعدونه لتنفيذ أوامره، ويكونون له سيفاً على حركات التمرد، ومن تسوّل له نفسه بالعصيان.
ولم يكن هؤلاء من العرب أو من الفرس لأن كليهما قد عاش في حياة الترف الأمر الذي اضطر معه الخليفة إلى إيجاد هؤلاء الجند من الترك الذين كانت بلادهم قد فُتحت أجزاء منها ولا تزال مناطق واسعة منها في أواسط آسيا تعيش على الوثنية، فيأتي منها الرقيق، ويجلب الأسرى حيث تقوم بعض الغزوات، فيأخذ الخليفة أعداداً من هؤلاء الأسرى أو الأرقاء ممن يجد فيهم ملامح النباهة وعناصر الذكاء، ويربيهم تربيةً عسكريةً، ويستعين بهم في الملمات.
تكون عدد كبير من هؤلاء الجند مع الزمن، واتسعت نفوذهم لأنهم أضحوا عصا الحاكم التي يشن بها على أعدائه وأضحى مركز قادتهم عظيماً لأنهم وحدهم يستطيعون أن يوطدوا الأمن، ويُخضعوا أيةَ قوةٍ مهما علت. ثم غلبوا على أمر الخليفة نفسه حتى قتلوا الخليفة المتوكل على الله عام (247 هجري).
وأصبح الخلفاء بعدئذٍ أُلعوبة بأيديهم يعزلون من شاءوا، ويقتلون من شاءوا، ويُمثّلون بمن شاءوا، بقي هذا الحال حتى جاء البويهيون فحكموا على السلطة كعسكريين، وكذلك أتى السلاجقة بعدهم، ولم يختلفوا عنهم من حيث الصفة. هؤلاء الجند أمرهم واحد سواء أكانوا عرباً، أم فارساً، أم تركاً، هم عسكريون، فالأمر ليس مُقتصراً على جنس أو خاصاً به.
فالجندي الذي تربى تربية عسكرية، وتأقلم مع السيف والرمح، وتعامل بهما، هو غير الذي يسوس الأمور، ويُدبّر الشؤون، يلين لشخص، ويقسو على آخر، ويستعمل الحكمة، ويضع كل شيءٍ في موضعه. والجندي الذي يعيش في الثكنات، ويكون على أهبة القتال في كل وقت، ويخوض غمار المعارك حسب الأوامر التي تُعطى إليه هو غير الذي يحيا بين أهله.
يُخطط للمعركة من وجهة نظر سياسية، ويستنتج فيما يتعلق بالنتائج، وما يؤدي إليه. وإن الذي يحيا حياةً قاسيةٌ قد يحقد على أولئك الذين يعيشون حياة المُترفين فيعمل ضدهم، ويحاول أن يسلبهم ذلك، فإذا تمّ له سار على ما كانوا عليه، وهذا ما يكون من العسكريين في كلّ وقت. وهذا التسلّط العسكري على الحكم العباسي في عصره الثاني هو الذي أضعف الدولة لا لأن هؤلاء العسكريين ينتمون إلى شعب غير الشعب العربي كما يدعي دعاة العصبية العربية.
خضوع الدولة للجند:
عندما رضخت الدولة للعسكريين، وحكم الجند على مُمتلكاتها بدأ أمرها يضعف، وشأنها ينحط، وهذا الأمر دائم. وقد يكتسب مع سيطرة العسكريين بعض الدعاية الخارجية، والهيبة المصطنعة، ولكنه أمر ظاهري ولا يلبث أن ينهار بعد زوال حكم الطاغية أو مع أول معركة، وإن كانت صغيرةً، لأن الشعب الذي أُذِلَّ لا يمكن أن يُقاتل به، والفرد الذي جُوّع لا يُمكنه أن يتحرك ويُضحَي بأوامر الذين جوّعوه.
ونتأمل في العصر الحديث أنه عندما لا تستطيع الدول الكبرى على تحقيق أهدافها في بعض الدول الضعيفة لعزّة شعبها وأنفته فإن تلك الدول الكبرى تعمل على إخضاع تلك الشعوب بحكوماتٍ عسكريةٍ تنفّذ أغراض الدول الكبرى، ولا يجرؤ أحد على الوقوف في وجهها.