اقرأ في هذا المقال
- طبيعة العلاقة بين علم الطب وعلم الاجتماع
- توسع النسق الطبي عند كلودين هرزلش
- ما هي أسباب الاهتمام السوسيولوجي بالصحة عند فرانسوا ستيندلر؟
طبيعة العلاقة بين علم الطب وعلم الاجتماع:
قبل الحديث عن ماهية علم الاجتماع الطبي ومجالاته ومحاولاته يجب أن نبدأ أولاً بالعوامل أو الظروف التي ساهمت على التجمع الطبي وعلم الاجتماع وظهور ما يعرف علم الاجتماع الطبي.
من هذا المنطلق يمكن القول أن علم الاجتماع كعلم قائم بذاته ظهر لدراسة الظواهر الاجتماعية ومن الباحثين في هذا المجال من يعرفه بالقول أنه علم قوانين الظواهر الاجتماعية، ولقد اهتم علم الاجتماع في السنوات الأولى من نشأته بدراسة المشاكل الاجتماعية كالفقر وبعض المشاكل الناجمة عن الثورة الصناعية، غير أنه على الرغم من تأخر ظهوره كنظام فكري خاص بالمقارنة مع العلوم الأخرى التي سبقته بالظهور، إلا أنه تمكن من فرض وجوده حتى أنه أصبح معترفاً به في كثير من التخصصات.
إضافة إلى أنه حقق نتيجة رائعة، من هنا تنوعت عنه عدة اختصاصات، وبالتالي اتسعت دائرة اهتماماته وأصبح يمثل أحد أهم الميادين ألا وهو ميدان الطب الذي اعتبر علماً بيولوجياً يقيس تقدمه على ضوء معايير الكفاية في انجاز العمليات الفنية والتشخيصية والعلاجية، وفي هذا الصدد اعتبر علم الطب من المهن الحرة، ويبقى أن نؤكد هنا على أن الطب لا يعد نشاطاً عرضياً وإنما هو قائم بذاته وبدأ يعيش فترة من اليقظة وكان ذلك بالضبط أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث استفاد من الدروس التي يتضمنها تاريخ الطب وخاصة تلك المتعلقة بأهمية الأبعاد الاجتماعية في تعليل المرض.
توسع النسق الطبي عند كلودين هرزلش:
ومن هنا توسع النسق الطبي وتخلص بالتالي من تلك الصراعات التقليدية التي كانت تعرقل تطور الطب وانبثق بذلك على ميادين معرفية أخرى ومنها علم الاجتماع، ويمكن أن نشير هنا بما قالته كلودين هرزلش في كتابها من أن بناء ونشاط المؤسسات الصحية ليس مستقلاً عن باقي المؤسسات الاجتماعية الأخرى فهو يرتبط بكل المحتويات والمضامين الاقتصادية والايديولوجية للمجتمع، وقد نؤيد ما ذهبت إليه هرزلش على ذلك بالمفهوم القديم للصحة والذي استمر فترة ليست بالقليلة أين كان معظم الناس يعتقدون بأن الصحة ما هي إلا خلو أو غياب المرض.
وأن المرض خلل قد يصيب أحد أجزاء البدن وبالإمكان التخلص من هذا الخلل بزيارة الطبيب وأخذ العلاج المناسب، بمعنى أن التوضيح المعروف في العهود السالفة للصحة، كان توضيحاً بيولوجياً فسيولوجياً محضاً لم يراعي الجواني الأخرى التي قد تؤثر على صحة الإنسان، غير أن الأبحاث المتواصلة في مجال الصحة وظهور علم الاجتماع والأنثربولوجيا وعلم الاجتماع الطبي ساعد على إعادة صياغة مقصود الصحة في باعتبارها لا تعني مجرد اختفاء المرض من البدن، بل هي حالة من الصحة الشاملة حيث يعني بالصحة الشاملة والسلامة والفكرية والنفسية والجسمية والاجتماعية، وهذا ما أكدته منظمة الصحة العالمية في تعريفها للصحة بأنها، حالة كاملة من السلامة الفيزيقية والفكرية والاجتماعية، وليس غياب المرض فحسب.
وذلك من منطلق أن الإنسان كائن اجتماعي يعيش وسط بيئة اجتماعية لها ظروف معينة، ومن ثم يتأثر بكل ما يحدث في هذه البيئة من ناحية المناخ ومن ناحية الظروف الاقتصادية والظروف الاجتماعية، وهذا ما يقودنا إلى أن علم الاجتماع والطب ميدانان هامان في الحياة قد يبدو في الظاهر أنهما منفصلان عن بعضهما البعض، غير أن العكس هو الصحيح وذلك انطلاقاً من أن كل ميادين ومجالات الحياة مرتبطة ببعضها البعض ومتداخلة ومتكاملة أيضاً، حيث أن أحدها يكمل الآخر ويتأثر به ويؤثر فيه كذلك، وعلى هذا الأساس أصبح ينظر للطب باعتباره علماً اجتماعياً، كونه يعالج الكائنات الحية وبخاصة الكائن الاجتماعي المتمثل في الإنسان الذي يتأثر بكل ما يحيط به.
ما هي أسباب الاهتمام السوسيولوجي بالصحة عند فرانسوا ستيندلر؟
يرجع أسباب الاهتمام السوسيولوجي بالصحة عند فرانسوا ستيندلر إلى سببين أو خاصيتين مهمتين للطب المعاصر، الخاصية الأولى تكمن في التطور التقني والتنظيمي، أما الخاصية الثانية فتعود إلى مهام العوامل الاجتماعية والبيئية في ظهور وتطور الأمراض فهدف الطب الجديد هو جعل الإنسان سيداً ومالكاً للطبيعة ولحياته ومماته.
وإذا حللنا الخاصية الأولى وما مدى علاقتها بعلم الاجتماع نقول أن التطور التكنولوجي قد مس كافة المؤسسات في المجتمع، ومن هذه المؤسسات النسق الطبي، أي عرفت الهياكل بناءاً مميزاً وتجهيزات خاصة تسهل من عملية العلاج وطاقماً طبياً له وظائفه الخاصة به، حيث تعد أهم وظيفة يقوم بها هي خلق علاقة جيدة مع المريض، ولكي تحدث مثل هذه العلاقة لا بدّ من وجود علم الاجتماع الطبي الذي يقوم بدراسة العلاقة القائمة بين الطبيب والمريض، وهذا الأخير وهيئة التمريض ومدى رضاه على مستوى الخدمات المقدمة إليه، وما هي السلبيات الناتجة عن هذه العلاقة، وما هي إيجابياتها أيضاً.
كل ذلك من اهتمام علم الاجتماع الطبي وليس بإمكان الأطباء أو الممرضين الفعل بذلك، فضلاً عن دراسة التكوّن الوظيفي للمنشآت الصحية، وكأن علم الاجتماع الطبي يسهل من عملية أداء الأطباء وهيئة الممرضين لوظائفهما، مما يسمح بالتطور في المجال الطبي وإدراك المعيقات التي من شأنها أن تعرقل المسار الطبي.
ونفس الشيء يمكن أن يقال في تحليلنا للخاصية الثانية حيث نجد علم الاجتماع يولي اهتماماً بالغاً بدراسة الظروف الاجتماعية أو الأسباب الاجتماعية الكامنة وراء إصابة الشخص بالمرض، كأن تكون الظروف الاقتصادية أو التنشئة الأسرية والاجتماعية سبباً في ذلك وبعض الأمراض التي تكون ناتجة من البيئة وطريقة العيش تنهي عن دراسة التصورات الاجتماعية للصحة والمرض، التي يصدق بها نسبة كبيرة من أفراد المجتمعات، والتي قد تكون مناصرة أو مناقضة للبرامج الصحية.
كل هذه الظروف وغيرها والتي يهتم بدراستها عالم الاجتماع الطبي من شأنها أن تساعد حكومات الدول في وضع استراتيجيات صحيحة وواقعية يمكن تطبيقها دون حدوث خلل أو اضطراب خصوصاً في المجتمعات التي بقيت تؤمن بما هو موروث شعبي ونقصد بذلك دور الداية أو القابلة، ونتيجة لهذه العلاقة الوظيفية المبيّنة بين علم الاجتماع والطب نشأ وتكوّن علم الاجتماع الطبي وأصبح علماً مستقلاً بذاته وتمكن من أن يثبت وجوده وأن يحرز كثيراً من التقدم، مما ساعد على إنشاء قسم لهذا العلم سنة 1960م في إطار الجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع.
ومن كل ما سبق نصل إلى نتيجة على درجة كبيرة من الأهمية، وهي أن النظرة السوسيولوجية قد شملت كل مجالات الحياة وأصبح كل شيء لا يخرج عن نطاق المجتمع، بمعنى آخر أن كل شيء يقع داخل الإطار الاجتماعي، كما يشير إلى ذلك فرانسوا إيوالد بالقول أن المجتمع ليس له خارج، وهذا ما تم تأكيده كذلك في كتابه أي طب ﻷي مجتمع، إن أزمة الطب بنفسها أزمة المجتمع، ذلك أن الحقيقة السوسيولوجية ليست بعيدة عن الحقيقة الطبية، فكلاهما مكمل للآخر، إذ أن المجتمع إذا لم يولي اهتماماً بالبرامج الصحية التي تصدرها الدولة، سيؤدي ذلك إلى انتشار مزيد من الأمراض كان بالإمكان تفاديها من خلال حملات التوعية الصحية بكيفية الوقاية من الأمراض أو علاجها قبل استفحالها.
وبالمقابل لن يكون للجانب الطبي أي أهمية إذ لم يعني بالجانب الاجتماعي ويطلع على ظروف الفرد الاجتماعية التي كانت سبباً في إصابته بالمرض، ولا بدّ من أن ننوه إلى أن ما أكده جين جويت صحيح، وذلك ﻷن أي تطور يحصل في أي مجال من مجالات حياتنا إنما يكون بدعم من المجتمع، والمتمثل في الفرد الذي تحدث التنمية من خلاله وﻷجله، وإذا تصورنا هذا الشخص مستنكراً للمشاريع التنموية ولتكن في المجال الصحي فهذا يعني حصول الأزمة والخلل في الأنظمة الطبية المعمول بها.