عصر الأسر المبكر أو العصر العتيق:
لم تزودنا المعلومات المصرية حتى الآن بما يكفي من دلائل لمعرفة ما حدث في تلك الحروب التي كانت بين الجنوب والشمال وأدت إلى إعادة توحيد مصر، فإنَّ كل معلوماتنا مستمدة فقط من تلك الآثار القليلة للملك العقرب وما ماثلها من آثار ذلك العصر.
كان المصريون منذ أيام الحكم الحديث يذكرون على دلائلهم اسم ملك يُسمى (منا)، بحيث يعتبر كأول ملوكهم، وذكروا ذلك أيضاً لهيرودوت ونص عليه مانيتون في تاريخه، كما كان المصريون أيضا يكتبون اسمه على جعارينهم تيمناً به، ولكننا لم نعثر على مثل هذا الاسم على آثار الملوك الأوائل، وكل ما يمكننا تقديمه من فروض هو أنه ربما كان اسماً آخر للملك المعروف لنا باسم (نعرمر)، الذي عثر له على بعض الآثار المهمة في هيراقونيوليس (الكوم الأحمر شمال أدفو) وفي أبيدوس، وأشهرها لوحته الشهيرة التي توجد الآن في المتحف المصري بالقاهرة.
أهم ملوك العصر العتيق:
يكاد يجمع المؤرخين الآن على اعتباره أنه هو نعرمر، أول ملك من ملوك في الأسرة الأولى، وأنَّ (منا)، ما هو إلا عبارة عن اسماً آخر لم يتم العثور عليه حتى الآن. ونرى على وجهي لوحته منظرين يختلفان في تفصيلهما ولكنهما يتفقان في الهدف واحد، وهو تسجيل انتصار هذا الملك على أعدائه. ففي أعلى اللوحة (في كل من الوجهين)، نرى اسمه (نعرمر)، مكتوباً داخل مستطيل يُمثل واجهة القصر وعلى يمين الاسم ويساره رسم لرأس المعبودة حتحور بوجه إنساني وأذني وقرني البقرة.
وعلى أحد الوجهين، وهو الخلفي منهما نشاهد الملك يقف ويحمل فوق رأسه تاج الجنوب يقبض على ناصية عدو راكع أمامه اسمه (واع شي)، وقد رفع في يده اليمنى دبوس قتاله ليهوى به على رأسه. وأمام الملك، نرى المعبود حورس على شكل صقر يقبض بيده على حبل يجر به رأس عدو له يعلوه ستة أعواد من نبات البردي يُمثل كل منها عدد ألف أي أنَّ المعبود حورس مكنه من أعدائه وسلم إليه ستة آلاف أسير من بينهم.
ويمشى خلف (نعرمر)، أحد مُساعديه وكان يحمل في يده اليمنى إناء، وفي يده اليسرى يحمل خفي الملك، وفي أسفل اللوحة نرى اثنين من أعدائه وفوق كل منهما اسمه. أما الوجه الآخر فيختلف إذ يحتل الجزء الأوسط منه رسم حيوانين استطالت أعناقهما والتفت حول بعضهما فتركت دائرة بينهما، وقد أمسك بمقود كلا من الحيوانين أحد الأتباع ليجذبه بعيداً عن الآخر.
وفي الجزء الأسفل من النقش نشاهد ثوراً (وهو تمثيل أيضا للملك)، يدمر بقرنيه أحد الحصون وقد ارتمى شخص يمثل أصحاب هذا الحصن تحت قدمي الثور. أما الثلث الأعلى من اللوحة فيملأ فراغه منظر آخر نرى فيه نعرمر وقد ارتدى تاج الشمال ويمشي وراءه ذات الموظف الذي نراه على الوجه الآخر، ونرى موظفا ثانياً يسير أمامه وقد تقدمه أربعة من الأتباع يحملون أعلام أربعة من الآلهة، وأمام تلك الأعلام خمسة صفوف في كل واحد منها جثتان لشخصين قطعت رؤوسهما.
ولا ريب في أنَّ النقوشات التي على هذه اللوحة تسجل انتصار (نعرمر)، في الحرب. وتسجل أيضا احتفاله بذلك النصر وقد وضع على رأسه تاج الشمال. وبالرغم من أنَّ اسمه مكتوب في أعلى هذا الوجه فإن الفنان أراد أنْ يؤكد لنا مرة أخرى أنَّ ذلك الذي يلبس تاج الشمال ليس إلا نعرمر، فكتب أسمه مرة أخرى أمام وجهه.
لقد أشرنا إلى النقوش التي على رأس دبوس الملك العقرب، وهي تشهد أيضاً فوزه في حرب ضد أهل الدلتا وسكان الصحراء، ولكنا رأيناه يلبس تاج الصعيد فقط. فلعل نعرمر هو الذي أتم ما بدأه غيره من جهد وأنه أخضع الدلتا إخضاعاً تاماً، وكان بذلك أول من توج من ملوك الصعيد ملكاً أيضاً على الدلتا، ومما يُرجح هذا الفرض أنَّ الرسوم التي على دبوس قتاله، الذي عثر عليه أيضاً في هيراقونيوليس، تُرينا مناظر الاحتفال بتتويجه ملكاً على الدلتا إذ نراه يلبس تاج الشمال ويجلس على العرش وقد اصطف وراءه كبار الموظفين، وتحلق فوق رأسه الرخمة وهي إلهة الكاب لحمايته، ووقف أمامه حملة أعلام الآلهة الأربعة، كما نقرأ أيضاً أعداد مئات الآلاف التي استولى عليها من الماشية والماعز، وكذلك الأسرى من الناس.
وتم العثور على آثار أخرى لهذا الملك عند حفر مقابر أبيدوس في أواخر القرن الماضي، ويثير هذا الأمر نقطة مُهمة في التاريخ المصري. فليس قبر نعرمر هو القبر الأوحد في أبيدوس، بل هُناك مقابر أخرى لملوك الأسرة الأولى وبعض ملوك الأسرة الثانية مما يثبت لنا أنَّ تلك العائلة التي نشأ منها نعرمر، اتخذت عاصمة لها على مقربة من ذلك المكان، وأنَّ العاصمة القديمة (نخن)، (الكوم الأحمر شمالي أدفو)، أصبحت عاصمة دينية فقط. كانت العاصمة الجديدة على مقربة من أبيدوس وتُسمى (ثني)، ومكانها يجب ألا يكون بعيداً عن الجبانة الملكية ولكنا لا نعرفه على وجه التحقيق حتى الآن.
كانت (ثني)، هي أول عاصمة مصرية في عهدها الأول، وبقيت طيلة أيام الأسرتين الأولى والثانية عاصمة للدولة والمركز الرسمي للملوك ولو أنَّ ملوك هذين الأسرتين كانوا يقيمون من آن لآخر في الشمال، في مدينة كانت تُسمى (القلعة البيضاء)، نسبوا إنشاءها فيما بعد إلى الملك (منا)، وهي التي سماها المصريون فيما بعد مدينة (منف).
وسواء أكانت تلك المدينة الشمالية قد أنشئت حقاً في عهد (منا)، أو أنها أنشئت في عهد أحد خلفائه، وسواء أصح ما زعمه المتؤرخون من أنَّ منا حول مجرى لنيل لينشأ هذه العاصمة الجديدة أو أنَّ الأمر لم يعد حفر ترعة أو عمل مشروع صغير من مشروعات الري، فإن اختيار الموقع كان ذا أهمية كبرى لحكم الشمال والجنوب إذ أنَّ المكان الطبيعي لعاصمة مصر يجب أنّ يكون على مقربة من المكان الذى تلتقي (منا)، حتى الآن.
ومنذ حفر (أميلينو ويتري)، في أبيدوس في أواخر القرن الماضي ووجدوا في مقابرها كثيراً من الآثار المهمة تحمل أسماء ملوك الأسرة الأولى كان الاعتقاد السائد حتى عام ((1921، أنَّ مقابر أولئك الملوك كانت هناك. ولكن حدث بعد ذلك أنّ عثر الأثريون على أسماء بعض أولئك الملوك أيضاً في مقابر في طرخان (جنوبي كفر عمار)، وفي سقارة، ثم أخذت مصلحة الآثار منذ عام ((1930 تحفر بانتظام في المنطقة البحرية من سقارة فوجد (فيرث)، بعض المقابر ثم تولى (إمري)، إتمام حفر تلك المنطقة منذ عام ((1935، حتى نشوب الحرب العالمية الثانية ووجد عدداً من مقابر الأسرة الأولى هناك، وعثر فيها على أسماء جميع ملوك الأسرة ابتداءً من (عجا)، ما عدا مقابر (جت)، و (قاع)، و (سمرخت).
كما عثر على مقابر بعض كبار الموظفين مثل (حما كا)، وهنا ظهرت المشكلة الرئيسية التي لم نصل إلى حل لها حتى الآن. لم يعثر (يتري أو أميلينو) على أي شيء في أبيدوس يثبت أنَّ ملوك الأسرة الأولى دفنوا حقاً في تلك المقابر كما اتضح أيضاً أنَّ مقابر سقارة أكبر وأفخم من مقابر أبيدوس، ففي أي المنطقتين دفن هؤلاء الملوك إن كانت مقابر سقارة قد أقيمت حقاً لأولئك الملوك وليس لوزرائهم الذين كانوا يُقيمون في العاصمة الجديدة في الشمال؟ لم يتم الإجابة عن هذا السؤال إلى الآن.