خوارج عُمان:
في عُمان المعروف أن المذهب الخارجي انتشر في عدة مناطق في الخليج العربي وتمركز بصورة خاصة بالمذهب الأباضي الخارجي في عُمان وحضرموت، وهناك رواية تشير إلى أن أبا عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي كان حامل لواء العلم للمذهب الأباضي وفقيهه ثم حمل لواء هذا المذهب في عُمان الربيع بن حبيب الفراهيدي، وبذلك أصبحت منطقة عُمان تدين لهذا المذهب.
ولمّا آل الأمر للعباسيين عين أبو العباس والياً على عُمان هو جناح بن عبادة بن قيس الهنائي؛ وبقي فيها مدة ثم عزله وعين ابنه محمد الهنائي خلفاً له. ففي عهده تمكن الخوارج الأباضية بزعامة الجلندي بن مسعود من السيطرة على البلاد، وصارت الولاية لهم بعد مبايعتهم بالإمامة سنة (132 هجري).
وتجدر الإشارة إلى أن الجلندي بن مسعود بن جيفر بن جلندي الأزدي، كان أباضياً، وهو أحد بني الجلندي بن المستكبر بن سعود ابن الجرار بن عز ابن معولة بن شمس، ملوك عُمان بعد أولاد مالك بن فهم، وكان الجلندي في جيش طالب الحق، فلمّا قتل جاء إلى عُمان فبايعوه فيها، وكان ذلك سنة (132 هجري)، وكانت إمامه سنتين وشهراً.
لقد تحرك الخوارج الإباضية في عُمان وعلى رأسهم الجلندي بن مسعود، فأرسل الخليفة أبو العباس حملة عسكرية سنة (134 هجري)، بقيادة خازم بن خزيمة التميمي لإعادة السيطرة على البلاد، وتشير غالبية المصادر إلى أن ترشيخ خازم بن خزيمة لقيادة الحملة ضد الخوارج في عُمان كان الغرض منه التخلص من خازم لقتله أخوال الخليفة أبي العباس وذلك أثناء تتبعه لبسام بن إبراهيم وجماعته.
وبناء على مشورة ونصيحة موسى بن كعب وأبي الجهم بن عطية للخليفة أبي العباس، بأن له طاعة وسابقة في الدعوة، عدل الخليفة أبو العباس عن قتل خازم واستجاب لمشاورة الذين أشاروا عليه بتوجيهه إلى من بعُمان من الخوارج أي الجلندي وأصحابه، وإلى الخوارج الذين بجزيرة ابن كاوان الذين كانوا مع شيبان عبد العزيز اليشكري.
فجهز أبو العباس خازم بسبعمائة رجل، وقد أعد سليمان بن علي الوالي على البصرة بأمر الخليفة أبي العباس السفن لحمل خازم التميمي وأتباعه إلى جزيرة ابن كاوان، ولمّا وصل خازم بن خزيمة أرسى السفن في جزيرة ابن كاوان ثم أرسل قوة مكونة من خمسمائة رجل بقيادة نظلة بن نعيم النهشلي لمُقاتلة الخوارج الصفرية، وعلى رأسهم شيبان بن عبد العزيز اليشكري، فاستطاع نظلة أن يدحر شيبان اليشكري الذي لم يتمكن من المقاومة والصمود أمام القوة العباسية فانسحب هو وأتباعه إلى ساحل عُمان، وفي هذه المنطقة اشتبك الأباضية والصفرية الذين لم يستطيعوا الاتفاق على مُجابهة العباسيين في معركة حاسمة انتهت بانتصار الخوارج الأباضية، إذ تمكن الجلندي بن مسعود من قتل شيبان اليشكري والعديد من أتباعه.
أما بالنسبة لخازم بن خزيمة التميمي فقد تحرك مع جيشه بطريق البر ونزل على ساحل عُمان، وفي أول الأمر طلب خازم من الجلندي أن يعترف بالخلافة العباسية وسيتركه وشأنه فامتنع الجلندي ووقعت الحرب، وهذا ربما يدل على أن خازماً أدرك نوايا الخلافة العباسية للتخلص منه بإرساله إلى عُمان فحاول أخذ السمع والطاعة من الأباضية دون قتال، أو يدل على أن الجيش العباسي جاء ليُقاتل الخوارج الصفرية بالدرجة الأولى وليس الأباضية، وأنَّ العباسيين كانوا يدركون اعتدال آراء الأباضية وتقاربها من مذهب جماعة المسلمين ولذلك لم يشاؤوا محاربتهم بل طلبوا منهم مجرد الاعتراف بخلافة أبي العباس.
وبسبب عدم تقبل الجلندي وأصحابه الخضوع للخلافة العباسية، فقد حدثت معركة قوية بمنطقة جلفار على ضفة الخليج العربي الغربية، انتصر في بدايتها الأباضية وأكثروا القتل في الجند العباسي وكان فيمن قتل أخو القائد خازم بن خزيمة مسلم أخيه لأمه، وكان على طلائع الجند العباسي نظلة بن نعيم النهشلي مساعداً لخازم بن خزيمة في هذه الحملة، ويشير الطبري أنَّ عدد قتلى الإباضية في هذه المعركة تسعمائة قتيل، وبعد أيام من هذه المعركة استعمل العباسيون أسلوباً جديداً في معاركهم للإباضية بعد أن استعصى عليهم الانتصار على الإباضية وذلك بإحراقهم بيوت الإباضية المصنوعة من الخشب والخلاف.
بعد أن وضعوا على رؤوس الرماح المشاقة وهي مادة مصنوعة من الكتان والقطن والشعر المشبع بالنفط أضرموا فيها النار وحرقوا بها بيوت أصحاب الجلندي بن مسعود، ففقدوا توازنهم العسكري وأصبح شغلهم الشاغل في هذه الحالة إنقاذ بيوتهم وعوائلهم، فتمكن العباسيون من الانتصار عليهم بسهولة وقتل الجلندي بن مسعود وعدد كثير من أصحابه، وبعث خازم برؤوسهم عن طريق البصرة إلى أبي العباس، وقد رجعت القوة العباسية وعلى رأسها خازم التميمي بعد أن أقامت عدة أشهر في عُمان وبعد أن أزالت الإمامة الأباضية من عُمان سنة (134 هجري)، وبذلك خُضِعَت عُمان رسمياً للدولة العباسية ولكن اسمياً.
خوارج إيران:
شهدت إيران بعض حركات الخوارج ففي فارس أعلن مهلهل الحروي حركته أثناء حكم الوالي العباسي إسماعيل بن علي، الذي سار إليه بقواته فقتله بعد معركة قصيرة وأسر قسماً من أتباعه. وفي سجستان أعلن هناوي السري حركته عام (141 هجري)، في فترة حكم واليها العباسي زهير الأزدي، والتحق بصفوف الخوارج الكثير من الأتباع لكنها لم تستمر طويلاً، حيث أخمدت في السنة نفسها، وقد ساد المنطقة الكثير من الاضطرابات لذلك عين الخليفة المنصور معن بن زائدة الشيباني واليأ على سجستان عام (151 هجري)، فتمكن من فرض الأمن والنظام.
وفي عام (161 هجري)، قام يوسف بن إبراهيم البرم بحركة في خراسان مُعلناً مُعارضته للحكم العباسي تحت شعار (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، مُعلناً إنكاره لسيرة الخليفة المهدي والعباسيين، وقد أيدته عناصر كثيرة متذمرة من سياسة المهدي أيضاً، أما الخليفة فقد اضطر إلى سحب قوات عسكرية بقيادة يزيد بن مزيد الشيباني الذي كان في مواجهة حركة خارجية بقيادة يحيى الشاري، وأمره الخليفة بالتوجه إلى يوسف البرم، فكانت بينهما وقعات أسر على إثرها يوسف البرم وبعض من قواته وأرسل إلى المهدي، وحين وصولهم إلى النهروان ركبوا على جمال ووجوههم إلى الوراء تحقيراً لهم ثم قتلوا وذلك بعد أن كلم الخليفة بكلام غليظ.
خوارج شمال أفريقيا:
أعلن الوالي الأموي على إفريقية عبد الرحمن فهري ولاءه للدولة العباسية الجديدة طيلة خلافة أبي العباس، ثم أقره الخليفة المنصور على الولاية، لكنه رفض تدخل السلطة في الشؤون الداخلية للإقليم، وبذلك ساءت العلاقة بين الوالي والخليفة، ولحدوث اضطرابات داخلية أدت إلى تمكن الخوارج الصفرية بقيادة عبد الملك الورفجوسي من قتل حبيب الفهري الوالي على القيروان وذلك عام (140 هجري).
أما الخوارج الإباضية بقيادة أبي الخطاب عبد الأعلى فقد تمكنوا من طرد عامل العباسيين من طرابلس في العام نفسه. وأعلنوا استقلالهم عن الخلافة العباسية، ومع ذلك فإن الاضطرابات استمرت في الإقليم بسبب الصراع بين الخوارج أنفسهم (الخوارج الإباضية والخوارج الصفرية)، والتي انتهت بمجابهة عسكرية بينهما وذلك عام (141 هجري)، واستيلاء الخوارج الإباضية على القيروان، أما في تلمسان فقد أعلن أبو قرة الصفري نفسه إماماً للخوارج، وبذلك ظهرت دولتان للخوارج في الشمال الإفريقي.
كان على الخليفة المنصور أن يواجه الخوارج في الشمال الإفريقي لذلك جهز حملة عسكرية بقيادة محمد بن الأشعث الخزعي، وعينه والياً على مصر، على أن يكون واجبه إلحاق الهزيمة بأبي الخطاب، وإخضاع الإقليم إلى الحكم العباسي، وقد توالت على الجيش العباسي هزائم متعددة خلال عامي (142، 143 هجري).
إلى أن جاء صفر من عام (144 هجري)، فدارت فيه معركة رهبية شرقي طرابلس انتهت بانتصار الجيش العباسي ومقتل أبي الخطاب، وانتهت بالفشل إمدادات الخوارج بقيادة أبي هريرة الزناتي، واحتل ابن الأشعث طرابلس، ثم تمكن من احتلال القيروان بعد أشهر، في الوقت الذي انهزم والي القيروان الخارجي عبد الرحمن بن رستم إلى المغرب الأوسط ليؤسس دولة جديدة بعد أن اتخذ تاهرت السفلى عاصمة لدولته، وبذلك خضع معظم شمالي إفريقية للحكومة المركزية.
والواقع لم ينعم هذا الإقليم بالاستقرار، بسبب حدوث انشقاقات بين القادة العسكريين العباسيين أنفسهم فضلاً عن ظهور بوادر التضامن بين الخوارج الإباضية في تاهرت والصفرية في سجلماسة، لذلك أسرع الخليفة المنصور عام (151 هجري)، بتعيين عمر بن حفص العتكي المهلبي، وهو من أكفأ الولاة والياً على إفريقية، الذي بنى مدينة العباسية لأبعاد جيشه الجديد ومنعه من الاختلاط بالسكان القدامى من العرب والبربر، وقد استغل الخوارج الفرصة فهاجموا القيروان وقتلوا حامية المدينة.
وفي طرابلس أعاد الخوارج تنظيم أنفسهم واستطاعوا من إلحاق الهزيمة بالحامية العباسية، وربما شجعهم هذا الانتصار على توحيد صفوفهم لطرد العباسيين نهائياً من الإقليم، فاتجه الخوارج نحو الوالي العباسي وجيشه المعسكر في مدينة طبنة، وضربوا الحصار عليها، ولعدم استطاعة الوالي العباسي من مجابهة الخوارج لكثرة عددهم لجأ إلى إغراء بعضهم بالأموال.
مما اضطر ما تبقى من الجيش الخوارج إلى الانسحاب، بعدها أسرع الوالي العباسي إلى القيروان عام (153 هجري)، حيث نجح في تفريق حشود الخوارج وقتياً، وذلك بحركة سريعة وفي الوقت نفسه استعد لحصار فرضه الخوارج عليه بقيادة أبي حاتم الكندي، فضلاً عن أخبار الخليفة المنصور بالوضع الصعب الذي تُعانيه القوات العباسية، إلا أنه قُتِلَ قبل أن تصله الإمدادات وسيطر أبو حاتم على إفريقية.
أدرك الخليفة المنصور خطورة الموقف، وقرر إرسال حملة عسكرية ضخمة بلغت (150) ألف مُقاتل بقيادة يزيد بن حاتم المهلبي وصرف على تلك الحملة (63) مليون درهم، وقد رافق الخليفة بنفسه الجيش حتى وصوله القدس وذلك عام (154 هجري). وبعد أن استكمل يزيد المهلبي استعداداته في مصر توجه إلى طرابلس بسرعة وبحركة بارعة استطاع أن يكسب ولاء قبيلة مليلة البربرية إلى جانبه، والتي زودته برجال ومعلومات عن طبيعة المنطقة، وبعد معارك عنيفة شنَّ هجوماً شاملاً أدى إلى القضاء على الخوارج ثم تتبع جيوبهم وتمكن من تصفيتها.