اقرأ في هذا المقال
- محاولة الخليفة استعادة نفوذ الدولة من السلطان محمود
- محاولة الخليفة استعادة نفوذ الدولة من عماد الدين زنكي
- محاولة الخليفة استعادة نفوذ الدولة من السلطان مسعود
محاولة الخليفة استعادة نفوذ الدولة من السلطان محمود:
تولى الخليفة المسترشد بالله زمام المبادرة لتحقيق هذا الهدف. وكان بداية النزاع الفعلي بين الخلافة العباسية والدولة السلجوقية في سنة (519 هجري)، عندما لجأ والي الحلة دبيس بن مزيد بن صدقة، إلى الأمير السلجوقي طغرل بن محمد بن ملكشاه وحسن له أن يطلب السلطنة والخطبة لنفسه من الخليفة المسترشد بالله فاستجاب طغرل لإغرائه.
وسار الاثنان بجيش كبير إلى بغداد، لتحقيق أهدافهما المتباينة حيث أن دبيس كان يرمي إلى الانتقام من الخليفة المسترشد بالله لِمَا بينهما من عداء بينما كان هدف طغرل هو انتزاع منصب السلطان من أخيه محمود بن محمد بن ملكشاه بتأييد من الخليفة. ولمّا علم الخليفة المسترشد بالله بنوايا هذين الحليفين أخذ يعد قواته لحربهما، وكان الخليفة المسترشد بالله قد أمر ببناء سور بغداد في سنة (517 هجري)، وعمل أهل بغداد بأنفسهم في بنائه.
وعندما قرب جيش طغرل ودبيس خرج الخليفة على رأس جيشه لصدِّهها عن بغداد، ولكن طغرل مرض فجأة فاضطر إلى الانسحاب دون أن يشتبك مع جيش الخلافة، ولجأ إلى عمه السلطان سنجر بن ملكشاه. كان لموقف الخليفة المسترشد بالله من طغرل أثر بالغ في نفس السلطان محمود، ولهذا كتب إليه يشكره، ويُعبّر عن طاعته للخلافة، كما تم الاتفاق بين الخليفة وبين السلطان محمود على الوقوف ضد طغرل والسلطان سنجر، فيما إذا حاول التدخل، على أن تكون السلطنة لمحمود وحده.
ولمّا بلغت أنباء ذلك الاتفاق إلى مسامع السلطان سنجر، كتب إلى السلطان محمود يشككه في نوايا الخليفة المسترشد بالله، ويطلب منه عدم الانصياع له، لأنه يهدف إلى الايقاع بينهما ليتخلص منهما الواحد بعد الآخر. كما حرضه على التوجه بجيشه إلى بغداد، والاستيلاء على ما جمعه الخليفة من آلات الحرب، ويقبض على الوزير ابن صدقه الذي نجح في ضمّ بعض أُمراء الولايات إلى صفوف الخليفة.
وقد استجاب السلطان محمود لطلبات عمه سنجر، وعزم على السير إلى بغداد، مُتناسياً ما سبق أن اتفق عليه مع الخليفة. ولمّا علم الخليفة المسترشد بالله بما تم بين السلطان محمود وعمه سنجر، وعزم محمود على السير الى بغداد، كتب إلى السلطان محمود يطلب منه عدم القدوم الى بغداد لقلة المسيرة فيها، غير أن السلطان لم يستمع إليه. وعند ذلك أخذ الخليفة يجمع العساكر والأسلحة استعداداً للقتال.
وفي شهر ذي الحجة من عام (520 هجري)، زحف السلطان محمود بجيشه إلى بغداد، وفي نفس الوقت عبر الخليفة المسترشد بالله وجيشه إلى الجانب الغربي منها، فبعث إليه السلطان محمود يدعوه الى الصلح، فرفض الخليفة. وفي شهر المحرم سنة (521 هجري)، نهب بعض جند السلطان دار الخلافة، فاستاء العامة لذلك، وانضم بعضهم إلى جيش الخلافة. أما الخليفة فأمر بحفر الخنادق للدفاع عن المدينة.
وبعد مناوشات بين الطرفين، اضطر الخليفة لقبول الصلح بسبب وصول عساكر إضافية كثيرة مدداً للسلطان محمود، بقيادة عماد الدين زنكي، حاكم البصرة من قبل السلاجقة. ويذكر ابن الأثير أن جيش الخلافة بلغ عدده ثلاثين ألف فارس من أهل بغداد والسواد. لم يتمكن السلطان محمود من دخول بغداد إلا بعد أن عقد صلحاً مع الخليفة المسترشد بالله. ولا شك أن هذا يُعتبر في حد ذاته نصراً معنوياً للخلافة العباسية.
وفي سنة (525 هجري)، توفى السلطان محمود فتجدد الصراع بين الأمراء السلاجقة للفوز بمنصب السلطان، وكان على رأسهم داود بن محمود بن محمد بن ملكشاه وعماه مسعود وسلجوقشاه، وقد أرسل كل من مسعود وداود إلى الخليفة المسترشد بالله يطلب السلطنة والخطبة لنفسه، ولكن الخليفة لم يستجب لهما، وكتب للسلطان سنجر أن لا يأذن لأحد في الخطبة.
وبعد معارك عنيفة بين المتنافسين من الأمراء السلاجقة استقرت السلطنة في سنة (526 هجري)، للسلطان طغرل بن السلطان محمد، فكتب للخليفة المسترشد بالله يطلب تأييده لسلطنته، فأرسل إليه الخليفة يشترط عليه دخول بغداد. ويبدو أن طغرل وجد في شرط الخليفة هذا تعدِ على سلطان السلاجقة، فرفضه، وبالتالي لم يعترف الخليفة به.
لم يقف الخليفة المسترشد بالله موقفاً سلبياً من الحرب التي دارت بين الأمراء السلاجقة، وإنما انتهز تلك الفرصة لتوسيع شقة الخلاف بينهم. وكان قد علم بأن السلطان سنجر في طريقه إلى العراق لتقرير السلطنة للأمير طغرل الذي كان مُقيماً لديه، فعمد الخليفة إلى سياسة التفرقة بينهما.
حيث عقد صلحاً مع الأميرين مسعود وسلجوقشاه الطامعين في السلطنة، ضد السلطان سنجر وطغرل، على أن يكون العراق بأجمعه للخليفة المسترشد بالله، وتكون السلطنة لمسعود، ويكون سلجوقشاه ولياً لعهده. وعلى إثر هذا الاتفاق قامت الحرب بين الفريقين المتنازعين من السلاجقة. ولم يشترك جيش الخلافة فيها. وكان النصر للسلطان سنجر وطغرل، وبالتالي نودي بالأخير سلطاناً للسلاجقة.
وفي سنة (527 هجري)، ذهب الأمير مسعود منافس طغرل على السلطنة إلى بغداد، فخلع عليه الخليفة واتفق له بتسليمه السلطنة، وأمر بالخطبة له على المنابر. وقد أكد الخليفة المسترشد بالله عند ترشيحه للسلطان مسعود هيبة الخلافة وسيادتها، بقوله للسلطان الجديد: (تلقَ هذه النعمة بشكرك واتق الله في سرك وجهرك). وهذا يدل على أن سلطنة مسعود لم تكن إلا هبة أنعم بها عليه الخليفة فتحتم عليه أن يُقابلها بالشكر.
محاولة الخليفة استعادة نفوذ الدولة من عماد الدين زنكي:
واصل الخليفة المسترشد بالله سياسته في استعادة نفوذ الخلافة العباسية، وكان قد هَزَمَ في سنة (526 هجري)، جيش دبيس بن صدقه وعماد الدين زنكي اللذين هاجما بغداد بتحريض من السلطان سنجر حاكم خراسان. ولا استقرت السلطنة للسلطان مسعود في سنة (527 هجري)، عول الخليفة المسترشد بالله على الانتقام من عماد الدين زنكي حليف السلطان سنجر، وكان قد أنفذ إليه رسولاً فقبض عليه عماد الدين وأهانه، فأغضب ذلك الخليفة مما حمله على مُحاربته.
قام الخليفة المسترشد بالله بمُحاصرة منطقة الموصل مُدة قد تصل إلى ثلاثة شهور، ولم يجد النفع من عروض عماد الدين زنكي بإعطاء المبالغ المالية للخليفة بالمُقابل أن يفك الحصار عن هذه المدينة. ولمّا أدرك الخليفة عدم جدوى الحصار عاد الى بغداد.
ويظهر أن عماد الدين زنكي خاف مغبة اختلافاته مع الخلافة العباسية، فبادر بالصلح نتيجة ما أفسده فيما مضى بعدائه لها، فبعث في سنة (528 هجري)، للخليفة المسترشد بالله أحد قاضي الموصل، ومعه التُحف والهدايا والخيل والسلاح طالباً الصلح، فوافق الخليفة. وكانت موافقة الخليفة على الصلح مع عماد الدين زنكي أكبر دليل على حكمته وحنكته السياسية، حيث أتاح له هذا الصلح التفرغ الكامل للسلاجقة فضلاً عن كونه استطاع أن يحول عداء زنكي إلى صداقة وولاء.
محاولة الخليفة استعادة نفوذ الدولة من السلطان مسعود:
لم تتوقف مشاكل الخليفة المسترشد بالله مع السلاجقة، فقد فسخ السلطان مسعود العقد مع الخليفة، فكان جوابه المباشر لهذه الحركة هو إيقاف الخطبة له في بغداد، مما شعر السلطان مسعود بعدم استقرار سلطته سنة (528 هجري)، بعد أن انضم معظم عسكره إلى أخيه طغرل.
على أن الخليفة المسترشد بالله ما توقف إلا أن قام بدعوة مسعود إلى رجوعه إلى بغداد ليُعيده إلى مكانه، فقَبِلَ مسعود هذه الدعوة. وكان من أهداف الخليفة هو أن يستفيد قدر الإمكان من نزاع السلاجقة لإضعافهم، وهذا أخذ يُحرّض السلطان مسعود على السير لحرب أخيه طغرل. ولكن السلطان مسعود لم يجب طلبه.
رجعت الخلافات مرة أخرى مع الخليفة المسترشد بالله والسلطان مسعود، فقد لاحظ وزير الخليفة كتاباً بعثه طغرل إلى بعض الأمراء المساعدين له في بغداد، فقام الخليفة بإمساك أحدهم، بينما ذهب الباقون إلى السلطان مسعود ورفض أن يسلمهم للخليفة. فغضب الخليفة منه، وأمره بالرحيل عن بغداد فخرج منها في شهر ذي الحجة من عام (528 هجري).
غير أن الخليفة عَلِمَ بمسير طغرل على رأس جيشه إلى العراق، فاضطر إلى مُصالحة السلطان مسعود ليقفا سوياً في وجه عدوها المشترك. ثم جاءت الأخبار بوفاة طغرل وهو في طريقة الى بغداد، فسار السلطان مسعود إلى همذان، وتولى الحكم بها في أول عام (529 هجري).
لمّا مالت السلطنة لمسعود في همذان، مالوا الأمراء الذين لجأوا إليه خوفاً من الخليفة، يُحرضونه على المسير لحرب الخليفة لأخضاعه للنفوذ السلجوقي، فانصاع السلطان مسعود إليهم وأخذ يجهز جيشه لمُهاجمة بغداد مما حمل الخليفة على قطع الخطبة له، وأخذ يعد العدة لحربه.
ثم ذهب الخليفة المسترشد بالله من بغداد لمُحاربة السلطان مسعود، وقال ابن الأثير أن جيوش الخليفة المسترشد بالله كان عددها سبعة آلاف رجل، بينا لم يصل جيوش عدوه أكثر ألفاً وخمسمائة رجل، إلا أن السلطان مسعود لجأ إلى السياسة، فأخذ يستميل أمراء الأطراف الذين كانوا على اتصال بالخليفة.
ولكن تأخر الخليفة في الطريق ساعد السلطان مسعود على جذب أولئك الأمراء، وضمهم إلى جيشه، وكان الخليفة يعتقد أنه إذا خرج للقتال فسيكون الناس إلى جانبه ضد السلاجقة، لكن الأمور لم تسر وفق ما خطط لها المسترشد بالله، بل حدث العكس، فلمّا التقت قواته بجيش السلطان مسعود، غدر به الأمراء الأتراك وأتباعهم فانسحبوا من جيشه، وانضموا إلى جيش السلاجقة، فانهزم جيش الخلافة، ووقع الخليفة نفسه في الأسر.
بعد انتهاء المعركة بعث السلطان مسعود إلى بغداد من استولى على أملاك الخليفة، فثارت العامة، وقاتلوا شحنة بغداد من قبل السلاجقة. ظل الخليفة المسترشد بالله مُعتقلاً في معسكر السلطان مسعود. وفي تلك الأثناء تلقّى السلطان مسعود رسالة من عمه السلطان سنجر حاكم خراسان لامه فيها على مُحاربة الخليفة، وأمره بأن يعتذر له، ويقدم له فروض الطاعة والولاء. ففعل السلطان مسعود ذلك، وعفا عنه الخليفة.
ثم ورد بعد ذلك رسول من السلطان سنجر إلى السلطان مسعود يأمره بإعادة الخليفة إلى بغداد، وكان بصحبة ذلك الرسول عسكر عظيم، وفيه جماعة من الباطنية، فخرج السلطان مسعود لاستقباله، وعند ذلك هاجم الباطنية المسترشد بالله، وكان في خيمة منفردة عن المعسكر، وقتلوه في شهر ذي القعدة من عام (529 هجري).
أرسل السلطان مسعود إلى عمه سنجر يستشيره فيمن يتولى منصب الخلافة بعد مقتل الخليفة المسترشد بالله، فكتب إليه قائلاً: (لا تولِ إلا من يقع عليه رأي الوزير وصاحب المخزن وكاتب الانشاء ويضمنون ما يجري منه، ويكون الجواب عليهم). وكان هؤلاء الثلاثة قد وقعوا في أسر السلطان مسعود مع الخليفة المسترشد بالله فأخلى السلطان سبيلهم، وأبقاهم لديه، فلمّا عرض عليهم رسالة السلطان سنجر اختاروا عبد الله بن المستظهر بالله، وضمنوه، فوافق السلطان على اختيارهم، وطلب منهم إخفاء الأمر، حتى يسير بنفسه إلى بغداد.