محاولة الخليفة المقتفي لأمر لله استعادة نفوذ الدولة العباسية

اقرأ في هذا المقال


محاولة الخليفة استعادة نفوذ الدولة من السلطان مسعود:

أساء السلطان مسعود في البداية مُعاملة الخليفة الجديد، المقتفي لأمر الله فأستولى على جميع ما كان في بيت الخلافة من خيل وبغال وأثاث هذا فضلاً عن الأموال، واستحلف الخليفة على أن لا يشتري طيلة خلافته، مملوكاً تركياً. ولهذا كان جميع غلمان المقتفي لأمر الله مُدة خلافته أما من الأرمن أو من الروم ولمّا رحل السلطان مسعود، من بغداد واجه الخليفة المقتفي لأمرالله مُضايقات من نائبه وأتباعه بها.

ويذكر الحسيني، أن اصحاب السلطان مسعود كانوا يتصرفون ببغداد تصرفات سيئة بغير موافقة الخليفة، كما أنّ نائب السلطان مسعود كان يتصرف تصرفات مُخالفة للدين، وكان الخليفة يكتب للسلطان شاكياً منه، ولكن بدون جدوى.

هكذا كانت العلاقة بين الخليفة المقتفي لأمر الله وبين السلاجقة غير أنّ الخليفة لم يتعجل الثورة على ذلك الاستبداد، بل استفاد من تجارب سلفيه المسترشد بالله والراشد بالله، وأخلد للسكون انتظاراً للوقت المناسب، والظروف المُلائمة، وهو مُدرك تماماً أن الشجاعة وحدها لا تكفي لعلاج الموقف.

وفي سنة (541 هجري)، تجددَّ النزاع بين الأمراء السلاجقة على السلطة، وعاد الانقسام بين صفوفهم، فانتهز الخليفة المقتفي لأمر الله تلك الفرصة، وأخذ يعمل على تكوين جيش نظامي للخلافة، وقد نجح في ذلك فعلاً بحيث أنه استعرض في سنة (543 هجري)، أفراد ذلك الجيش، أي بعد عامين فقط من شروعه فم تكوينه.

كما أمر الخليفة بحفر الخنادق استعداداً للطوارىء. ويذكر السيوطي أن سنة (543 هجري)، كانت البداية نشاط الخلافة العباسية، بسبب خمول السلطان مسعود عن إخضاع بعض أمراء الولايات الذين ثاروا عليه، فأتاح ذلك الفرصة للخليفة المقتفي لأمر الله لإصلاح أوضاع الدولة.

ويصور لنا ابن القلانسي الخطوات التي اتبعها الخليفة العباسي لتقوية مركز الخلافة من الناحية العسكرية، فيقول: (وخرج أمر الخلافة في سنة (543 هجري)، بالشروع في عمارة سور بغداد وحفر الخنادق وتحصينها، وإلزام الأماثل والتناء والتجار وأعيان الرعايا القيام بما ينفى على العمارات من أموالهم على سبيل القرض والمعونة).

ولمّا توفي السلطان مسعود في سنة (547 هجري)، تجدد الصراع بين الخلافة العباسية والدولة السلجوقية، مما أدى إلى تقلص النفوذ السلجوقي في العراق شيئاً فشيئاً، ثم زال في النهاية. ويذكر ابن خلدون أنّ السلطان مسعود كان آخر سلطان سلجوقي له نفوذ في العراق. وكان أول عمل عسكري قام به الخليفة المقتفي لأمر الله بعد وفاة السلطان مسعود هو الاستيلاء على مُمتلكات شحنة بغداد مسعود بلال، الذي هرب إلى تكريت، عندما عَلِمَ بوفاة السلطان مسعود.

محاولة الخليفة استعادة نفوذ الدولة من السلطان محمد شاه:

كذلك صادر الخليفة دور أصحاب السلطان ببغداد، ثم جهز جيشه استعداداً لِمَا قد يطرأ من قبل السلطان السلجوقي الجديد، ولكي يضمن الخليفة إخلاص موظفيه وتعاونهم عزل كل من ولاه السلطان، وعين موظفين عوضاً عنهم من قبله.

في تلك الأثناء كان (مسعود بلال)، شحنة بغداد السابق قد بسط نفوذه في تكريت والحلّة، وهزم جيش السلطان السلجوقي الجديد ملكشاه بن السلطان محمود، فجهز الخليفة جيشاً، وسيره لمحاربته مع وزيره عون الدين يحيى بن هبيرة، ثم تبعه هو بنفسه على رأس جيش آخر. وقد نجح هذان الجيشان في إعادة الحلّة والكوفة وواسط إلى حظيرة الخلافة العباسية.

واصل الخليفة المقتفي لأمر الله جهوده لاستعادة هيبة واحترام الخلافة العباسية، فدعم جيشه بعناصر من مماليكه الأرمين والروم وسماهم (الخيلية) كما زاد من إحكامات سور بغداد وخنادقها، ورتب الولاة في الولايات، وبعث الجواسيس إلى مُختلف الولايات لموافاته بما يستجد من أمور في الوقت الذي كان فيه السلاجقة في شغل بالحروب فيما بينهم للظفر بالسلطنة.

بلغ من ضعف السلاجقة وقوة الخلافة العباسية أن السلطان ملكشاه الذي سار بجيشه الى العراق في سنة (548 هجري)، كعادة من سبقه من السلاطين ‏اضطر إلى الانسحاب من مدينة واسط عندما علم بمسيرة الخليفة المقتفي لأمر الله لحربه ولم يجرؤ على الاشتباك معه في قتال.

وكان موقف السلطان محمد شاه الذي انتزع العرش من أخيه ملكشاه في أواخر عام (548 هجري)، مُماثلاً لموقف سلفه من الخلافة العباسية،‏ فقد اجتمع عنده الأمراء الذين منح الخليفة اقطاعاتهم لوزيره ابن هبيرة، وحرضوه على محاربة الخليفة، واستعادة هيبة السلاجقة، ولكن دون فائدة.

في تلك الأثناء ثار أهل تكريت وعلى رأسهم (مسعود بلال)، وملكوا عليهم الأمير السلجوقي أرسلان بن السلطان طغرل، فسار الخليفة لحربهم في صفر سنة (549 هجري)، وتمكن من إلحاق الهزيمة بهم، ويبدو أن الخليفة المقتفي لأمر الله أراد أن يستفيد من انقسام أُمراء البيت السلجوقي إلى أكبر حد ممكن، ولهذا أحضر في سنة (551 هجري)، سليمان شاه بن محمد الذي كان ينزل ضيفاً عليه، ومستجيراً به في نفس الوقت، وولّاه سلطاناً بعد أن استحلفه على إلتزام الطاعة والاخلاص للخليفة.

واتفق الطرفان على أن لا يتعرض السلطان سليمان شاه بأي حال من الأحوال للعراق التي ستكون تحت حكم الخليفة مباشرة، بينا يكون للسلطان سُليمان ما يفتحه من بلاد خراسان، ويذكر ابن الأثير أن سليمان شاه أرسل إلى الخليفة المقتفي لأمر الله يستأذنه في دخول بغداد، فأذن له الخليفة في القدوم.

كذلك عقد الخليفة المقتفي لأمر الله اتفاقاً مع الأمير السلجوقي ملكشاه بن محمود أخي سليمان، وكان حاكماً لخوزستان، واستحلفه لسليمان شاه وجعله ولياً لعهده، ثم أمده بالمال والسلاح، وسيرههما إلى همذان لمُحاربة السلطان محمد شاه. غير أن السلطان محمد شاه تمكن من الإنتصار على ابنيّ عمه سليمان شاه وملكشاه ومن ثم أرسل إلى الخليفة يطلب منه إقامة الخطبة له ببغداد، فرفض الخليفة وبالتالي سار السلطان محمد شاه بجيشه من همذان إلى العراق.

وعندما علم الخليفة بذلك أخذ يعد العدة لقتاله، فاستدعى الأمراء التابعين له وفرق السلاح على الجند، ونصب المجانيق والعرادات،‏ ووزع المؤن على المحاربين، ورتّب المدافعين على أسوار بغداد المحصّة تحصيناً قوياً. ولم يصل الجيش السلجوقي إلى بغداد في سنة(552 هجري)، إلا وكان الخليفة قد هيأ الرأي العام للمعسركة ضد السلاجقة، لدرجة أن العامة كانوا ضمن جيش الخلافة في قتاله ضد المهاجمين.

فرض السلطان محمد شاه الحصار على مدينة بغداد لمُدة تزيد على ثلاثة أشهر ولكن ذلك لم يؤثر في الروح المعنوية للمحاصرين بسبب الاستعداد العسكري الكبير الذي أعدّه الخليفة، ولِبذله المال والمؤن بسخاء للمحاربين.

ولم يكتف الخليفة بما بذله من جهد عسكري في الوقوف في وجه خصمه، بل لجأ إلى السياسة أيضاً لإضعافه، فألب الأمراء الطامعين في السلطنة، وعلى رأسهم ملكشاه ‏ وحرضهم على مهاجمة همذان عاصمة السلطان محمد شاه، وعلى إثر ذلك هاجم ملكشاه همذان ودخلها، وأعلن نفسه سُلطاناً على السلاجقة. عند ذلك لم يجد السلطان محمد شاه بُدّاً من فك الحصار عن بغداد، والانسحاب الى همذان، ولم تكن لدى جيش الخلافة القوة الكافية لمطاردته وكان هذا آخر حكم السلاجقة في العراق.

وفي سنة (552 هجري)، متوفي السلطان محمد شاه، فاختلف أمراء السلاجقة على من يخلفه في السلطنة، ثم استقر الرأي على بيعة سليمان شاه، فتولى السلطنة في أول سنة (555 هجري). وفي نفس هذا العام توفي الخليفة المقتفي لأمر الله بعد حياة حافلة بالنضال ضد تسلط السلاجقة واستبدادهم. وقد أجمع المؤرخون على شجاعته وحسسن تدبيره، وقدرته الفائقة على تصريف الأموره.

كما أنه كان أول خليفة عباسي حكم العراق دون تدخل من سلاطين السلاجقة، ويقول السيوطي عنه: (جدد معالم الإمامة، ومهد رسوم الخلافة، وباشر الأمور بنفسه)، ويقول في موضع آخر: (في أيام المقتفي عادت بغداد والعراق إلى يد الخلفاء، ولم يبقَ لهم مُنازع).

وكان الخليفة المقتفي لأمر الله حريصاً كل الحرص على تتبع ما يجري في البلاد، حتى لا يفوته منها شيء، وهذا كان ينفق كثيراً من الأموال على أصحاب الأخبار لكي يكون على علم بكل صغيرة وكبيرة تتعلق بسياسة الدولة. وقد نجح المقتفي لأمر الله في استعادة ما فقدته الخلافة العباسية من هيبة واحترام، كما تمكّن من تثبيت سلطتها ونفوذها على معظم أجزاء العراق.


شارك المقالة: