اقرأ في هذا المقال
مناورات أبي مسلم الخرساني لتوسيع سلطته:
لقد اختلفت الروايات التاريخية فيما بينها حول أصل ومنشأ أبي مسلم الخراساني فعلى الرغم من الدور الذي قام به أبو مسلم في الدعوة العباسية إلا أنَّ هذه الشخصية ظلت غامضة، أما أصله فقد اختلفت المصادر فيما بينها حول ما إذا كان عبد أو مولى ولكن أغلبها يشير إلى أنه من أصل فارسي، وهو الأرجح. فقد ولد في قرية قرب أصبهان من أب فارسي وأم جارية فارسية، وأن بعض المصادر تحدد تاريخ مولده في سنة (100 هجري)، وقيل سنة (101 هجري).
انتقل مع أمه من أصبهان إلى قرية (خطرنية)، وهي قرية من قرى الكوفة في أول شبابه، حيث صادفت أن سجن بعض العجليين في سجن الكوفة بتهمة ماء وعمل على خدمة آل العجلي في السجن، وهناك التقى لأول مرة مجموعة من نقباء بني العباس عندما زاروا آل العجلي في السجن فأعجب به الدعاة العباسيون واسترعى انتباههم لمّا رأوا فيه من كفاية وأدب وفطنة، وقد مال هو إليهم أيضاً فكسبوه إلى دعوتهم. وأخذوه معهم وأهدوه إلى زعيم الدعوة العباسية إبراهيم الإمام، فأعجب بذكائه وقدراته فأضبح مولى له فاستمر أبو مسلم في معية إبراهيم وبدت مقدرته حتى أنَّ إبراهيم كان يقول عنه هذا عضلة من العضل.
وفي رواية أنّ إبراهيم الإمام هو الذي سماه بعبد الرحمن بن مسلم وكناه أبا مسلم، أما عن نسبه أبي مسلم الخراساني فقد اختلف فيه أيضاً فقيل من أصبهان وقيل من خراسان، وقيل من العرب، وقد ادعى هو أنه عربي ورتب لنفسه نسباً، وذلك عندما قوي أمره ادعى أنه ابن سليط بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، أي نسب نفسه إلى آل البيت العباسي، ولكن ادعاءه هذا جاء متأخراً.
ويرى العبادي أن أبا مسلم أصطنع لنفسه هذا الأصل العربي لغرض خطير في نفسه، فقد صار يملك من القوة والنفوذ في خراسان ما يمكنه من تحقيق أطماعه في السلطة، ولعله يستطيع أن يتبوأ أعلى المناصب ولكن كانت تنقصه الشرعية في الحكم لتحقيق مآربه، إذ لا يتأتى ذلك إلا أن يكون من آل البيت.
لقد لقب أبو مسلم نفسه بالخراساني، ويبدو أن هذا تدبير من إبراهيم الإمام، حيث سماه عبد الرحمن بن مسلم وكناه (أبو مسلم)، لدلالة على إسلامية الدعوة، ويذكر أن أبا مسلم لقب نفسه بالخراساني نسبة إلى خراسان كلها، ولم ينسب نفسه إلى قبيلة أو عشيرة أو مدينة كما هو الأسلوب الجاري آنذاك، وذلك أنَّ الثورة مثل فيها أبو مسلم الإمام إبراهيم هي ثورة إسلامية لكل أهل خراسان عربها ومواليها.
دور أبي مسلم الخرساني السياسي وعلاقته بالخليفة أبي العباس:
كان أول اتصال لأبي مسلم بالدعوة العباسية حين أصبح مولى لإبراهيم الإمام وبدأ يحمل كتبه إلى كبير الدعاة العباسيين، ماهان بن كثير في خراسان، وقد كانت هذه المرحلة الأولى. أما عن المرحلة الثانية فقد برز فيها أبو مسلم قائداً عسكرياً، وذلك عندما قام إبراهيم الإمام بإرساله ممثلاً عنه إلى غير المسلمين العباسيين بخراسان، وأوصى شيوخ الدعوة هناك به خيراً، فتمكن بالتعاون مع النقباء العرب من السيطرة على الوضع في وقت قصير وقلب موازين القوى في المنطقة لصالح الثورة العباسية.
إنّ أبا مسلم الخراساني كان من جملة رجالات الدعوة العباسية الذين اعتمد عليهم الخليفة أبو العباس في توطيد حكمه، ولم ينكر الخليفة أبو العباس الدور الذي قام به أبو مسلم في الدعوة العباسية، وفي تأسيس الدولة العباسية، فقد قربه إليه وأعطاه ثقته، ويبدو أنَّ من الأسباب التي كانت وراء ذلك هو اعتراف أبي العباس بفضل أبي مسلم الخراساني عندما استعان به للتخلص من أبي سلمة الخلال الذي حاول قبل بيعة أبي العباس بالخلافة نقل الخلافة إلى العلويين.
والسبب الآخر والأهم هو النفوذ الكبير الذي تمتع به أبو مسلم في خراسان قبيل بيعة أبي العباس بالخلافة وبعدها، فقد التف حوله الكثير من أهل خراسان فصارت له سلطة وكلمة مطاعة بينهم، فأصبح أبو العباس يحسب له ألف حساب إذ أنه بقي الرجل القوي الوحيد لاسيما بعد أن تخلص أبو مسلم من منافسه القوي أبي سلمة الخلال، ومنافسيه الأقوياء من العرب في خراسان وهم كثرة، وبهذا الصدد تشير الروايات أنَّ أبا مسلم كان معتداً بشجاعته وقوته.
لقد أصبح أبو مسلم الخراساني أقوى شخصية سياسية في خراسان بل في بلاد فارس، وحين عينه الخليفة أبو العباس والياً على خراسان كان هذا التعيين بمثابة اعتراف بأمر واقع، فيلاحظ أن أبا العباس قام بتوزيع الولايات المختلفة على أقاربه، ولم يولِ أحداً غيرهم سوى أبي مسلم الخراساني فقد ولاه خراسان، وهذا طبعاً يفسر المركز القوي الذي أصبح فيه أبو مسلم.
ويرى الجومرد أنَّ أبا مسلم شعر منذ بداية الأمر بضعف الخليفة أبي العباس اتجاه قوته، وبضخامة شخصيته عنده، فراح بدهائه ومكره يندفع نحو إتمام ما كان يحلم به، من أنَّ خراسان داره وفي حوزته، فقد اغرق أبو مسلم عاصمة الخلافة بجنده وأحاط الخليفة بحرس من عنده، وملا قصره بالعيون والأرصاد حتى بات أبو العباس يشعر أنه يستظل بسلطان أبي مسلم، وأنه لابد من استشارته بكل ما يصنع، ومشى على هذه السياسة حقبة من خلافته.
لقد كان أخو الخليفة أبو جعفر عبد الله بن محمد غير راضٍ عن تصرفات أبي مسلم الخراساني، حيث أنَّ أبا جعفر كان أكثر العباسيين حذراً من أبي مسلم وتوجساً منه، وأنَّ أسباب ذلك تعود قبل كل شيء إلى خوفه من أنّ يتمرد عليهم ويخرج عن طاعتهم، وفي رواية أنَّ أبا جعفر سأل سلم بن قتيية بن مسلم الباهلي عن رأيه في أبي مسلم؟ فأجاب سلم: لو كان فيهما آلهة لفسدتا). فقال أبو جعفر: (حسبك الله أبا أمية، لقد أودعتها إذناً واعية).
لقد كان أبو مسلم يتدخل في شؤون الدولة، إذ أنَّ أغلب المؤرخين يتفقون على أن أبا الجهم بن عطية الباهلي كان عيناً لأبي مسلم في البلاط ينقل إليه جميع ما يجري، يقول ابن قتيبة: (وكان أبو الجهم بن عطية عين أبي مسلم على أبي العباس فكان يكتب إليه بالأخبار، وكان أبو العباس لا يقطع أمرأ دون رأي أبي مسلم). ويؤيده في ذلك الطبري، وأشار اليعقوبي إلى ذلك بقوله: (وكان الغالب عليه أبو جهم بن عطية). أما الجهشياري فيقول: (وكان أبو الجهم بن عطية ينوب عن أبي مسلم يحضره أبو العباس ويخلفه). ومن هذه الروايات يظهر أن أبا الجهم كان ينقل جميع ما يجري في قصر الخلافة إلى أبي مسلم.
وتبدو قوة أبي مسلم في أنه لجأ إلى التخلص من الرجال الكبار، حتى تبقى له السيطرة وحده، فقد تخلص أولاً من أبي سلمة الخلال الذي كان أول وزير لأبي العباس، ثم أشار على أبي العباس بقتل يزيد بن عمر بن هبيرة، فقد كتب إلى أبي العباس يقول: (إنه قل طريق سهل تلقى فيه حجارة إلا ضر ذلك بأهله، لا والله لا يصلح طريق فيه ابن هبيرة).