إنّ الصحابي عبد الله بن سعد بن أبي السرح كان أحد أبطال المسلمين الأوائل، كما أنّه كان قائد فذ، فقد قام بالمشاركة مع المسلمين في فتح الشام وكانت لديه مقدرة عسكرية فائقة وساهم في نشر الدين الحنيف في ربوعها، لمّا تجهزت جيوش عمرو بن العاص لفتح مصر لحق بها، كما وضع بين يدي قائده ابن العاص كل إمكاناته العسكرية، فاستفاد عمرو من خبرته وعينه قائد على ميمنة جيشه.
من هو عبد الله بن سعد بن أبي السرح؟
هو أبو يحيى بن عبد الله ابن سعد بن أبي السرح بن الحارث بن جذيمة بن مالك بن حسْل بن عامر بن لُؤي القرشي العامري، أمّه مهانةُ بنت جابر من الأشعريين، قال الذهبي: “هو أخو عثمان من الرضاعة”، له صحبة ورواية حديث، كان ابن أبي سرح فارس بني عامر بن لؤي معدوداً فيهم، هو أحد النجباء العقلاء الكرماء من قريش وكان مجاب الدعوة.
دخل عبد الله بن سعد بن أبي السرح الإسلام قبل فتح مكة وهاجر إلى المدينة، لما كان يحسن القراءة والكتابة فقد أصبح أحد كتاب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكنّه كان يغيِّر ما كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، على سبيل المثال أملى عليه رسول الله (سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، فكتب: (علِيمٌ حَكِيمٌ)،
كان عمرو بن العاص الوالي في مصر أثناء عهد عمر بن الخطاب تقريباً لأربع سنوات، توفي عمر وبقي عمرو بن العاص الوالي عليها، خلال بداية خلافة عثمان بن عفان كان عبد الله بن أبي السرح يقوم بمساعدته في عمله في بعض نواحي مصر، الذي كان مرافق لعمرو بن العاص منذ أيام فتوحه في فلسطين، حيث اشترك معه في فتوح مصر، كما عينه عمر على بعض صعيد مصر بعد فتحها، يبدو أنّ عمرو بن العاص وعبد الله بن سعد بن أبي السرح حدث بينهما خلاف في وجهات النظر.
طلب عمرو بن العاص من عثمان بن عفان بأن يعزل عبد الله بن أبي السرح عن ولاية الصعيد، فلم يوافق عثمان بن عفان على ذلك، فذكر له أنّ عمر بن الخطاب هو الذي قام بوضع عبد الله ابن أبي السرح وأنّه لم يقم بما يؤدي لعزله، فأصر عمرو على عزله وأصر عثمان على عدم موافقته، نتيجة لإصرار كل من الطرفين على رأيه، رأى عثمان بن عفان أنّ من الأصلح عزل عمرو عن مصر وتولية عبد الله بن أبي السرح مكانه، وهذا ما حدث بالفعل.
في هذا الوقت قام الرّوم بمهاجمة الإسكندرية والاستيلاء عليها، كما قاموا بقتل جميع من فيها من المسلمين، فأمر عمر بن الخطاب تعيين عمرو بن العاص على جيوش مصر من أجل فتح الإسكندرية من جديد والقضاء على جيش الروم، تم ذلك فعلاً، ثم إنّ عثمان بن عفان أراد أن يعيد عمرو على ولاية أجناد مصر وحربها وأن يجعل عبد الله بن سعد على الخراج، إلّا أنّ عمرو رفض ذلك.
بعد أن تمّ عزل عمرو بن العاص عن مصر مرّة أخرى، أيضاً بعد أن رفض ما قاله عثمان -رضي الله عنه- من ولايته على الأجناد وأن يتولى عبدلله بن أبي السرح على الخراج، وضع عثمان بن عفان عبد الله بن أبي السرح مرة أخرى والي على مصر وأصبح المدير الأساسي لولاية مصر بكافة أجنادها وخراجها وجميع شئونها سنة 25 هجري، من الواضح أنّ عبد الله بن سعد استطاع أن يضبط خراج مصر حتى ازاد ما كان يجمعه من الخراج، على ما كان يجمعه عمرو بن العاص، بالتالي زادت أموال الخراج المتوافرة في مصر.
كان حُكم عبد الله بن سعد على مصر جيد بشكل عام لدى المصريين، فلم يروا منه أي شيء مكروه، يقول المقريزي: “ومكث أميراً مدة ولاية عثمان رضي الله عنه كلها محموداً في ولايته”، كان من العقلاء وقد كانت الولاية في مصر بدايةً هادئة ومستقرة، إلى أن تمكّن المتمرّدون مثل عبد الله بن سبأ من الوصول إليها وإثارة الناس فيها، فكان لهم دور كبير في مقتل عثمان رضي الله عنه.
كما أنّ الأحوال في مصر اضطربت؛ ذلك بسبب طرد الوالي الشرعي لها وقيام أقوام آخرين بالاستيلاء على الأمور بطرق غير شرعية، فقد عملوا خلال تلك الفترة على نشر الكراهية في قلوب الناس لخليفتهم عثمان بن عفان، نتيجة مكائد وأكاذيب لفقوها ونشروها، إنّ حكم عبد الله بن سعد بن أبي السرح في مصر كان امتداد لحكم عمرو بن العاص من حيث الاهتمام بالرعية.
فتح عبد الله بن سعد بن أبي السرح بلاد النوبة:
من الأعمال التي قام بها عبد الله بن سعد غزوة بلاد النوبة، التي سميت بغزوة الأساودة أو غزوة الحبشة عند العديد من المؤرخين، فقد حدثت هذه الغزوة سنة 31هجري، فقد كان عمرو بن العاص قد شرع في فتح بلاد النوبة بإذن من الخليفة عمر بن الخطاب، فوجد حرباً لم يتدرب عليها المسلمون وهي الرمي بالنبال في أعين المحاربين حتى فقدوا مائة وخمسين عينا في أول معركة، بسبب هذا قبل الجيش الصلح.
بعد أن تولّى عبد الله بن سعد ولاية مصر، قام بغزو النّوبة في عام 31هجري، قام الأساود بقتاله من أهل النوبة قتال شديد، فأصيبت يومئذ عيون كثيرة من المسلمين، منها عين معاوية بن حديج رضي الله عنه، فسأل أهل النوبة عبد الله بن سعد المهادنة، فهادنهم هدنة بقيت إلى ستة قرون، كما عقد لهم عقداً يضمن لهم استقلال بلادهم ويحقق للمسلمين الاطمئنان إلى حدودهم الجنوبية، كما يفتح النوبة للتجارة والحصول على عدد من الرقيق في خدمة الدولة الإسلامية.
فتح عبد الله بن سعد بن أبي السرح إفريقيا:
قام عبد الله بن سعد عندما كان والي على مصر بالجهاد في العديد من المواقع، حيث كانت له عدة فتوح كبيرة، من أهم غزواته غزوة إفريقيا سنة 27هجري وفتوحه فيها، فقد قام الخليفة عثمان بن عفان بتوجيه عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى شمال إفريقيا وقال له: “إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكَ غَدًا إِفْرِيقِيَّا، فَلَكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ خُمُسُ الْخُمُسِ مِنَ الْغَنِيمَةِ نَفْلا، فذهب عبد الله بن سعد نحو إفريقيا وقتل ملكها جرجير.
رافق عبد الله بن سعد خلال تلك الغزوات عدد من الصحابة، مثل عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم، وانتهت الغزوة بصلح مع بطريرك أفريقيا على تأدية الجزية للمسلمين، فقد عاد ابن أبي السرح إلى أفريقيا مرة أخرى ووطّد فيها الإسلام وذلك في سنة 33هـجري، إنّ فتح إفريقيا يضيف نقطة بيضاء في سجل الفتح والجهاد الذي خطّه بن ابي السرح.
فتح عبد الله بن سعد بن أبي السرح قبرص:
في سنة 28 هجري أبحر معاوية بن أبي سفيان حاكم الشام وواليها، من ميناء عكا إلى قبرص ومعه جيش كبير، قام عبد الله بن سعد بالتوجه من الجهة الأخرى، فالتقيا في الوسط وانتصرا وغنما مالاً جيداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الجيش: “أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا”. قالت أم حرام بنت ملحان: يا رسول الله أنا فيهم ؟ قال: “أنت فيهم”، وقد استشهدت أم حرام في تلك الغزوة.
قيادة عبد الله بن سعد بن أبي السرح معركة الصواري:
من أهم الأمور العظيمة في الفتح الإسلامي التي حُسبت لعبد الله بن سعد بن أبي السرح معركة الصواري، تذكر المصادر بشكل عام عن إنجازاته أنّه ولي مصر وغزا فيها ثلاث غزوات قوية، لقد كان من أهم أعمال عبد الله بن سعد بن أبي سرح العسكرية غزوة ذات الصواري سنة 35هجري، فقد انتصر فيها المسلمون على الروم بقيادة قسطنطين بن هرقل، الذي جاء بألف سفينة لضرب المسلمين ضربة يثأر لها لخسارته المتوالية في البر، فأذن عثمان رضي الله عنه لصد العدوان.
فقام معاوية بإرسال مراكب الشام بقيادة بسر بن أرطأة، حيث قام مع عبد الله بن سعد بن أبي السرح بالاجتماع في مراكب مصر، كان عبد الله مسؤول عنها وجميعها إمرته|، مجموعها 200 سفينة فقط، قام هذا الجيش الإسلامي بالسير وفيه أقوى المجاهدين المسلمين، حيث كانت ذات الصواري أولى المعارك الحاسمة في البحر خاضها المسلمون، أظهر فيها الأسطول الفتيُّ الصبر والإيمان والجَلَد والفكر السليم.
قام عبد الله بن سعد بصفِّ المسلمين على جميع السّفن، فبدأت السيوف تتضارب على السفن، فدارت الدائرة على الروم وخسر فيها الإمبراطور قسطنطين الثاني، الذي أتى بنفسه إلى المعركة وهرب ليطلب النجاة، تمّ تسمية هذه المعركة بذات الصواري بسبب كثرة صواري السفن التي شارك فيها الطرفين، كما عدَّها المؤرخون يرموكاً ثانية، حيث انتصر المسلمون وأصبح البحر المتوسط بحيرة إسلامية وصار الأسطول الإسلامي سيد مياه البحر المتوسط.