خالد بن برمك ودوره في الخلافة العباسية

اقرأ في هذا المقال


نفوذ خالد بن برمك:

ينسب خالد بن برمك إلى البرامكة، وهم أسرة من بلاد فارس من مدينة بلخ ينسبون إلى جدهم برمك، ولم يكن برمك اسمآً لشخص، وإنّما هو لقب أطلق على جد هذه الأسرة توارثوه فيما بينهم، إذ أنَّ هذا اللقب يعني رئيس أو كبير سدنة أو معبد النوبهار الذي كان في بلخ، ويظهر هذا من قول المسعودي في حديثه عن النوبهار، وكان الموكل بسدانته يُدعى اليرموك، وهي سمة عامة لكل من يلي سدانته. ومن أجل ذلك سميت البرامكة، لأنّ خالد بن برمك من ولد من كان على هذا البيت.

وفي رواية يؤكد المقدسي أنّ البرامكة كانوا من أهل بيوتات بلخ ممسن يتولون البهار وبيت النار فقيل لهم البرامكة على معنى أنّهم سدنة البيت وحجابه، ويؤيده ابن خلكان في ذلك بقوله، اشتراه برمك وبنوه بسدانته. ويرى بعض المؤرخين أنّ معبد النوربهار كان بيتاً من بيوت النار، إلّا أنّ هناك ثمة من يرى أنّ النوبهار لم يكن من بيوت النار، وإنما هو معبد بوذي وهو الأرجح، وهنا يمكن القول أنه على الرغم من أنّ دين البرامكة كان بوذياً، إلّا أنّ أصلهم من خراسان من بلاد فارس.

إنّ الروايات التي تشير إلى أن جد البرامكة الذي لقب بـ (برمك) كان من مجوس بلخ، تبدو ضعيفة، لأنّها تعطي بُعداً لا يستند على روايات موثوقة عن أصل البرامكة، ومن سياق هذه الروايات يبدو أثر الوضع غالباً عليها، وهي على أحسن الاحتمالات روايات فارسية شعوبية لا يؤخذ بها، لأنّها أشيعت بين الناس بعد سيطرة البرامكة على السلطة، لتأكيد دور الفرس وأثرهم في سياسة العباسيين.

تحدد بعض المصادر مولد خالد بن برمك عام (90 هجري)، وقد جرت مُحاولة لربط خالد البرمكي بنسب عربي، حيث ذكرت رواية، أنَّ قُتيبة بن مسلم الباهلي أقام على بلخ لأنّ بعضها كان منتقماً عليه فحارب أهله، فكان ممّن سبي امرأة برمك، أبي خالد بن برمك، وكان برمك على النوبهار فصارت لعبد الله أخي قتيبة، فوقع عليها ثم إنَّ أهل بلخ صالحوا من غد اليوم الذي حاربهم قتيبة: فأمر قتيبة برد السبي، فقالت امرأة برمك لعبد الله بن مسلم: إنّي قد علقت منك، وعند وفاة عبد الله أوصى أن يلحق به ما في بطنها، وردت إلى برمك، وأن ولد عبد الله بن مسلم جاؤوا أيام المهدي حين قدم إلى الري إلى خالد، فأرادوا أن يلحقوه بهم فمنعهم مسلم بن قتيبة من ذلك.

إنّ هذه الرواية تبدو موضوعة ولا يمكن الأخذ بها، ذلك أن العديد من الموالي الطموحين حاولوا الانتساب إلى العروبة لزيادة فسرص نجاح هم أو ارتقائهم في الدولة والمجتمع، فهي ظاهرة تتكرر كثيراً في تلك الحقبة، ثم إنَّ سبي امرأة خالد حصل في سنة (86 هجري). وأن عبد الله أخا قتيبة أخذها عنده، ثم ردّت إلى زوجها في اليوم التالي، فلا بد أن تكون ولادة خالد بن برمك (87 هجري) بينما تذكر غالبية المصادر أن خالداً ولد في سنة (90 هجري)، وهذه الرواية على كل حال تدل على قوة العروبة وأهمية الانتساب إليها، ولكنّها لا تعني أنّ الدولة كانت تتبع سياسة التمايز بين العرب والموالي أو عناصر المجتمع الأخرى.

وقد وصف خالد البرمكي بالجود والبأس والعقل، ولم يصل ولده إلى ما امتاز به من صفات، كما وصفه أغلب المؤرخين بالكرم، وفي رواية ما رأيت مثل خالد بن برمك بلاغته أعرابية، وطاعته أعجمية، وآدابه عراقية، وفصاحته شامية، وكتابته سوادية، ورغم أن الرواة قد بالغوا في تصوير خالد بن بردمك وأبرزوا قابلياته بسبب سلطته، فإنّه لا شك كان يتمتع بقدرات إدارية ومالية لفتت إليه نظر الخليفة أبي العباس.

دور خالد بن برمك السياسي في الدعوة العباسية:

كان خالد بن برمك أحد نظراء النقباء، من دعاة بني العباس، حيث ارتبط بالدعوة العباسية منذ بدايتها، واشترك في العمل مع الدعاة العباسيين، يقول ابن عساكر أن خالداً كان مُتصلاً بمحمد بن علي ثم إبراهيم الإمام بعده، وكان عند ظهور أبي مسلم من رجاله البارزين حيث أرسله لفتح طوس بعد هرب نصر ابن سيار آخر الولاة الأمويين في خراسان من مرو.

وظهر أنّه كان إدارياً قديراً وذا خبرة في الأمور المالية، فيذكر الجهشياري أنَّ خالداً كان في عسكر قحطبة بن شبيب يتقلد خراج ما افتتحه قحطبة من الكور، كما أنه تولى تقسيم الغنائم في عسكر قحطبة الطائي، وأنّه عهد إليه بتنظيم الخراج في خراسان، إضافة إلى أن قحطبة استفاد من مشورته أثناء الحرب ضد بني أمية، وذلك لِمَا كان يتمتع به خالد من خبرة وتجربة. إنّ أول من اتصل بالعباسيين من البرامكة هو خالد بن برمك، فقد اتفق المؤرخون على أنه لمّا عقدت البيعة لأبي العباس، كان خالد أحد الذين ذهبوا إلى أبي العباس ليُبايعوه بالخلافة، فرأى أبو العباس فيه فصاحة توهم سامعه أنّه من العرب فسأله من الرجل؟ قال له: مولاك خالد بن برمك، وقص عليه قصته.

فأعجب به أبو العباس وأقره على ما كان يتقلد من أمر الغنائم، قلده بعد ذلك ديوان الخراج وديوان الجند، وذلك لتميز خالد في الإدارة المالية منذ عهد الدعوة العباسية. وقد اشترك خالد البرمكي أيضاً في الحرب ضد الأمويين بعد الإعلان عن تأسيس الدولة العباسية، فقد كان خالد البرمكي من جملة القواد الذين أرسلوا لمحاربة ابن هبيرة في واسط.

كما تحمل خالد مسؤوليات الوزير رغم أنه لم يسم وزيراً، ويقول ابن الطقطقي عن خالد: وكان يعمل عمل الوزراء ولا يسمى وزيراً، حيث رفض خالد بعد مصرع أبي سلمة الخلال أن يلقب بالوزير، مع أنّه خلفه في مهام منصبه، إضافة إلى جميع المهمات الأخرى التي كان يقوم بها.

ويرى بعض المؤرخين المحدثين أنّ خالد بن برمك تميز بكفايته في المسؤوليات التي تسلمها، بحيث نال ثقة الخليفة أبي العباس وغدا من خاصته، فقد أحله أبو العباس من نفسه محل التكريم، وقد دأب خالد على أن يظهر أمام أبي العباس بمظهر الإخلاص والتواضع ولهذا كان أبو العباس شديد الرِّضا عنه، ولا تشير الروايات التاريخية إلى سنة تسلمه الوزارة.

صفات خالد بن برمك:

لقد وصف خالد بكونه حسن التدبير يصرف الأمور بحكمة وروية، ثم إنّه كان حازم الرأي بعيد النظر مخلصاً للخليفة، مُتفانياً في خدمته، ففي رواية شكا الخليفة إليه يوماً أنّه يخشى نفوذ أبي مسلم الخراساني، فإنّ له في نفوس الجند منزلة عظيمة يهابونه ويخشونه ويأتمرون بأمره وينتهون عند نهيه، فلم تغرب الحيلة عن ذهن خالد بن برمك، ولم يعز عليه أن يستشير على الخليفة برأي فيه تشكيك للجند في أبي مسلم، وحط لمكانه، وإضعاف لشوكته وتوهين لقوته، وبمعنى آخر أشار عليه برأي ظاهره تقوية جيش أبي مسلم وباطنه تحطيم مركزه.

وكان رأي خالد أن يأمر أبا مسلم بعرض جيشه، وإسقاط من لم يكن من أهل خراسان، ففعل أبو مسلم ذلك، من غير أن يفطن للثمر، وجلس للعرض في أول يوم، وأسقط جنداً كثيرأ، ليسوا من أهل خراسان، ثم جلس في اليوم الثاني، وفعل ما فعل في اليوم الأول، ثم جلس في اليوم الثالث، فقام إليه رجل فقال: علام تسقط الناس أيها الرجل منذ ثلاث؟ فأجابه أبو مسلم: أسقط من لم يكن من أهل خراسان، قال: فابدأ بنفسك، فإنك من أهل أصبهان، وقد دخلت في أهل خراسان فوثب أبو مسلم عن مجلسه، وقال: هذا أمر أحكِم بليل وحسبك من شر سماعه، وفطن لما أريد به، وبلغ الخبر أبا العباس فسره، ومن ذلك يتبين أنّ أبا مسلم تنبه في اللحظة الأخيرة التي خطط لها خالد لإضعاف ولاء الجند له ومن ثم السعي إلى إسقاطه.

ويظهر أنّ العلاقة كانت قوية بين أبي العباس وخالد بن برمك، كما أنّ أبا العباس كان يعتمد على خالد في الأمور الإدارية، نظراً لما تمتع به خالد من فطنة ودهاء وخبرة، ولكن خالد البرمكي لم يتعد نفوذه أو يتجاوز صلاحياته لتطغى على صلاحيات الخليفة أبي العباس أو تتعارض معها.


شارك المقالة: