نشوء الدويلات المستقلة في العصر العباسي

اقرأ في هذا المقال


نشوء الدويلات في العصر العباسي الأول:

المسلمون أُمةٌ واحدة أينما كانت ديارهم، ولهم خليفة واحد، ولا يصح أن يوجد أكثر من خليفةٍ من أن واحدٍ، وإنما توجد ولايات تتبع الخليفة، وليس لها حدود ثابتة، ومصلحة الدولة هي التي تُحددُها، وبقيت الدولة الإسلامية على هذه الصورة أيام رسول الله وخلفائه الراشدين من بعده، واستمرت كذلك في العهد الأموي مع وجود خليفتين حقبة قصيرةً من الزمن، ولكن نعدّ نحن أن أحدهما كان ثائراً على الخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.

فلما أتى العهد العباسي، وتبع الأمويون فرَّ أكثر من هرب منهم من القتل إلى مناطق نائية أو حصينةٍ ومكثوا فيها وهم بتكتُّم شديدٍ كبقية أفراد المجتمع، وإذا وجد أحدهم الفرصة مواتية له ظهر وبرز، وكان أن وصل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك إلى الأندلس، واستطاع أن يصل إلى إمرتها بعد صعوباتٍ تجاوزها، ولم يفكر في الانفصال عن الدولة الإسلامية وإن كان قد اعتصم فيما آلت إمرته عليه بل بقي يدعو للخليفة العباسي مُدّة عشرة أشهر.

ولو أن العباسيين أمهلوه لكان خيراً، ولما تجرّأت الدولة الإسلامية فى وقتٍ مُبكر إلا أن محاولة أبي جعفر المنصور في تخليص الأندلس من عبد الرحمن الداخل وقتله وإرسال العلاء بن المغيث الجذامي لهذا الغرض عام (146 هجري)، قد جعل الداخل يقطع الخطبة عن العباسيين أولاً ثم ينفصل عنهم، ولكنه لم يُعلن نفسه خليفة وإنما احتفظ بلقب أمير، واستمر الأمر كذلك فى أبنائه وأحفاده مُدة (178 هجري)، سنة (138 – 316 هجري).

وهي مُدة طويلة بالنسبة إلى دولتين مختلفتين بل إن إحداهما انتزعت الحكم من الأُخرى، وقتلت من أبنائها الكثير، وشرّدت كثيراً وفي عام (316 هجري)، أعلن عبد الرحمن الناصر نفسه خليفة، وذلك بعد أن حكم الأندلس مُدة ستة عشر عاماً وهو أمير، كل ذلك في سبيل المُحافظة على وحدة المسلمين، وتمشّياً مع العقيدة الإسلامية التي تقضي بعدم وجود خليفتين في وقتٍ واحدٍ.

وكذلك تكونت دولتان للخوارج في المغرب الأوسط حوالي عام (140 هجري)، وهما للأباضيين في (تاهرت)، والأخرى للصفرية في (سجلماسة)، ورغم أن الخوارج يختلفون فكرياً مع أهل السنة إذ يُكفّرون من لم ير رأيهم، ومع ذلك فلم تعلن هاتان الإمارتان الخلافة. وقامت دولة الأدارسة عام (172 هجري)، في المغرب الأقصى على يد إدريس بن عبد الله بن حسن ومع أنه كان قد نجا من معركة (فخ)، عام (169 هجري)، في أحد شِعاب مكة.

وقد قتل فيها كثير من عشيرته وعائلته، وفرَّ هارباً ليُنجي بنفسه من القتل، وخائفاً من تعقّب العباسيين وأنصارهم، وتحمُّل الصعوبات، ووجد في طريقه المشفّات، ولما تمكن من أن يقيم دولة بما وهبه الله من إمكانات لم يُعلن نفسه خليفةً. وتأسست دولة الأغالبة في المغرب الأدنى عام (184 هجري)، ولكنها بقيت تتبع العباسيين، واستمرت إمارةً عباسيةً أو ولايةً تتبع بغداد ولكنها وراثية في ولاتها.

إذ أضحى العصر العباسي الأول وما زال للمسلمين دولة وحكومة واحدة، وجميعهم يأخذون ويتبعون الأوامرمن خليفة واحداً، وإن ظهرت ولايات لا تقرُّ بالخليفة القائم بالأمر، أو يكون اختلاف معه قليلاً أو كثيراً، ويمكن أن نعدّها إمارات على خلافٍ موقتٍ مع أمير المؤمنين، هذا رغم ما يُقال عن العداء بين العباسيين والأمويين، وصلة العباسيين بالفرنجة أعداء الأمويين، وصلة الأمويين بالبيزنطيين أعداء العباسيين.

لكنها في الواقع لم تكن أكثر من صلات مجاملة وتبادل هدايا، ووعود لم ينتج منها أي شيء من حروب، أو لقاء مؤمنين مع كافرين ضد مؤمنين آخرين. وإذن وجدت إمارات، في العصر العباسي الأول، وكانت هذه الإمارات محصورةً في مغرب الدولة الإسلامية، وقد أسس بعضها العرب كما هي الحال في دولة بني أمية في الأندلس ودولة الأغالبة في تونس.

والأدارسة في فاس في المغرب الأقصى، كما أسس بعضها الآخر البربر كما هي حال دولتي الخوارج، أو يمكن أن نقول بأسلوب آخر: إن عناصر سكان الدولة الإسلامية في المغرب هم الذين أسسوا هذه الدويلات، وهم من العرب والبربر، أو أن هذه الدول قد نشأت نتيجة طموحات عربية وبربرية.

نشوء الدويلات في العصر العباسي الثاني:

أما في العصر العباسي الثاني فقد أنشأت دويلات في مشارق الدولة الإسلامية إضافةً إلى ما تكونت في مغربها، ولا شك فإن عناصر سُكان هذا الجزء هم الذين أقاموا هذه الدويلات، ولما كانت أكثرية هذه العناصر من الفرس والترك لذا يجب أن نتوقع مُسبقاً قيام الفرس والترك بتأسيس هذه الدول، ويجب ألا نستغرب ذلك، ولا نضع اللوم على هؤلاء السُكان باسم العصبية الجاهلية منا فهذا أمر طبيعي له مثيله في بلاد المغرب بل كان أسبق منه.

وإن هذه الدول لم تقم حتى زاد ضُعف الدولة العباسية، وعندما كانت قوية أو كان الحُكم قوياً لم يقم الترك ولا الفرس بمحاولاتٍ لتأسيس مثل هذه الدول وإنما الذي أقام الدول هم العرب والبربر فقط، وربما نعت بعضهم هذا التأخر بالجبن والضعف على حين كان العرب والبربر أكثر شجاعةً في هذا الميدان، ولكن يمكن أن نقول: إنه لا داعي لقيام دولٍ صغيرة عندما يكون الحُكم المركزي قوياً ولكن إذا ضعف فقد يضطر بعض الطامحين للعمل على تأسيس دول تكون قويةً لتقف في وجه العدو أو لتعيد إلى الدعوة شبابها وانتشارها، وإعادة الفتح.

ودبّت الروح المعنوية في حياة المواطنين من جديد كما كان في الدولة (الغزنوية)، التي أعادت الفتح في بلاد الهند تارةً أُخرى وعملت على نشر الإسلام هناك، وإذا كان عناصر السكان هم الذين يؤسسون الإمارات المستقلة إلا أنه يمكن أن يأتي غُرباء عن المنطقة وينجحون في إقامة مثل هذه الإمارات وذلك إذا كان لهم شُهرة سابقة أو حُكم مثل عبد الرحمن الداخل في الأندلس.

أو السلطة الدينية مثل إدريس بن عبد الله في المغرب الأقصى، أما الذين يحكمون الولايات والذين يعيشون في استقرار في ولايةٍ مُدةً من الزمن ثم يستقلون فيها وينفصلون مثل إبراهيم بن الأغلب فنعدهم من عناصر السكان الأصليين حيث أقام بين أظهر السكان مُدةً ثم أفاد من مركزه فشكل حوله قوةً تحدثنا عن مثلها في الجانب العسكري.


شارك المقالة: