نظريات حديثة في علم الاجتماع

اقرأ في هذا المقال


نظريات حديثة في علم الاجتماع:

إن المنظور الماركسي الذي يتصف بالحتمية التاريخية قد فقد الكثير من هيبته النظرية والعملية بعد سقوط أنساق الحكم الشيوعية خلال التسعينات من القرن العشرين، إلا أن مجموعة من المنظرين ما زالوا يستلهمون جوانب عديدة من اتجاهاته النظرية في ما يطرحونه من تصورات.

بل إن طائفة من هؤلاء حتى في تنكرهم للأصول الماركسية التي انطلقوا منها ذات يوم، قد حملوا معهم أصداء من تراثهم الفكري القديم عندما تحولوا إلى ما يسمى بمدرسة ما بعد الحداثة.

نظرية ما بعد الحداثة:

يزعم أنصار التصورات ما بعد الحداثية أن المفكرين الاجتماعيين الكلاسيكيين افترضوا أن للتاريخ ثمة صوراً معيناً ومساراً متواصلاً وسيرورة هادفة، وأن هذه الأفكار الكبرى قد انهارت وآلت إلى الانقراض في التاريخ المعاصر وأصبحت عديمة المعنى، ولم يقتصر الأمر على أن فكرة التقدم في التاريخ قد غدت عديمة المغزى، ولا يمكن الدفاع عنها، بل إن ما بعد الحداثيين يرون أنه ليس من المحتّم على المجتمع البشري أن يسلك المسار الاشتراكي كما كان يرى ماركس، أو أن ينهج النهج العقلاني والبيروقراطي كما توهم فيبر.

ويرى بعض المنظرين الحِداثيين وما بعد الحداثيين أن ما يسيطر في عالمنا اليوم هو وسائل الإعلام والاتصال الجديدة التي تنتزع منا ماضينا ومن جوانب عديدة من وقتنا هذا، ويضيف هؤلاء أن مجتمع ما بعد الحداثة يتسم بدرجة عالية من التعدد والتنوع، ومن هنا فإن العالم الذي نعيشه ونشاهده في وسائل الاتصال الحديثة مثل التلفاز والأفلام والصور والمواقع الإلكترونية زاخر بالأفكار والقيم المطروحة للتداول، ولا صلة له بتاريخ المنطقة التي نعيش فيها.

إننا كما تقول مجموعة من هؤلاء المنظرين الحداثيين، نعيش في عالم يتشكل ويعاد تشكيله باستمرار، فالإنتاج الجماعي والمستهلك الجماعي والمدينة الكبيرة، والدولة البوليسية المهيمنة، والعقارات السكنية الواسعة، والدول الوطنية، كلها قد بدأت بالانحسار، بينما تتصاعد مستويات المرونة والتنوع والتباين والحراك والاتصال واللامركزية والتدويل، وفي تلك الأثناء تتعرض هوياتنا ومفهومنا لذاتنا ومشاعرنا ومواقفنا الذتية لسلسلة من التحولات.

ويعتبر عالم الاجتماع جان بوديار، من أفضل المنظرين في مدرسة ما بعد الحداثة، فهو يرى أيضاً أن وسائل الاتصال الإلكترونية قد دمرت العلاقة التي تصلنا بماضينا ووتكونت حولنا عالماً من الخواء والفوضى، وكان بودريار قد تأثر بالماركسية في مرحلة مبكرة من حياته الفكرية، غير أن ثورة الاتصالات الإلكترونية وانتشارها قد قلبت في رأيه المقولة الماركسية حول تأثير القوى الاقتصادية على شكل المجتمع رأساً على عقب.

ويرى بودريار أن ما يؤثر في حياتنا الاجتماعية أشد التأثير هو الاشارات والصور، ويعتمد بودريار جانباً من أفكاره في هذا المجال من المدرسة البنيوية، وبخاصة الأفكار التي قالها ساسور بأن المعاني والدلالات تخرج من الروابط بين الكلمات لا من الواقع الخارجي، وفي هذه الأيام التي تهيمن فيها وسائل الإعلام الجماهيرية، فإن المعاني والدلالات، كما يرى بورديار، تستمد من تدفق الصور على نحو ما نشاهده في برامج التلفاز.

حتى إن الناحية العظمى من عالمنا قد أصبح يحتوي كوناً خيالياً مصطنعاً نستجيب فيه ونتفاعل مع صور إعلامية لا مع أشخاص وأحداث وأمكنة واقعية حقيقية، وقد أصبحنا نتأثر بالمشاهدة التي تعرض علينا عن الأحداث والكوارث والمشكلات أكثر بكثير من تأثرنا بالمضمون الواقعي لهذه الحقائق، ويتحدث بورديار كثيراً في هذا السياق عن انحلال الحياة وذوبانها في إطار شاشات التلفاز.

حيث أن ميشيل فوكو كان يرفض إدراجه في المدرسة ما بعد الحداثة، فإنه كان يلتقي مع أصحاب هذا الاتجاه في كثير من أفكاره، لقد حاول في أعماله أن يوضح لنا المراحل التي تفصل فهمنا في العالم الحديث عن صور الفهم التي كانت سائدة في عصور سابقة.

وسعى ميشيل في مؤلفاته حول الجريمة، والجسد والجنون والحياة الجنسية، إلى تحليل بزوغ عدد من المؤسسات الحديثة مثل السجون والمستشفيات والمدارس التي لعبت دوراً متزايداً في مراقبة سكان المجتمع وضبطهم والسيطرة عليهم.

وحاول فوكو أن يبين أن أفكار عصر التنوير حول الحرية الفردية كان لها وجه آخر يتعلق بالضبط والانضباط والتأديب والرقابة، وطرح فوكو أفكاراً مهمة حول العلاقة بين السلطة والمعرفة والخطاب في الأنساق التنظيمية الحديثة، حيث يؤدي الخطاب دوراً مركزياً في آراء فوكو حول السلطة والسيطرة في المجتمع، ويشير مفهوم الخطاب عنده إلى مجمل أساليب الحديث والتفكير التي تنتظمها مجموعة من الفرضيات المتقاربة حول قضية ما.


شارك المقالة: