نهاية أبي مسلم الخرساني خلال الفترة العباسية

اقرأ في هذا المقال


نهاية أبي مسلم الخرساني خلال الفترة العباسية:

ساهم الفرس الخراسانيون بدور الواضح في انشاء وتطوير دولة الخلافة العباسية وأولهم أبي مسلم الخراساني، متأملين تحقيق تطلعاتهم وأمانيهم التي يمكن تلخيصها بما يلي:

  1. إيلاء السلطة الجديدة نظرة عطف لقضاياهم بعد الظلم الذي تعرضوا له إبان الحكم الأموي.
  2. الرغبة في التخلص من الحكم الآنف الذكر الذي أعطى العنصر العربي ميّزة على ما عداه تجلّت في ميادين الحياة كافة.
  3. إعادة مجدهم الغابر وإحياء سلطانهم الفارسي المندثر (كسرى انوشروان).

حدّد العباسيون سياستهم نحو هذه العناصر المتطورة في المجالين السياسي والعسكري من منطلقين:

  • المشاركة والموازنة في إطار الطاعة لبني العباس.
  • القمع إذا حصل خروج على هذا الولاء.

وتمنحنا هذه السياسة دوافع لأحداث كبيرة حفل بها العصر العباسي الأول. وحينما قوي ساعد دولة الخلافة العباسية واوضحت سياستها، لاحظوا أن الدولة الجديدة لم تنجز متطلباتهم بالشكل الذي يريدونه ورأوا في إحجام العباسيين عن تنفيذ الوعود التي بذلوها خلال فترة التحضير للثورة، تراجعاً لا يمكن الاطمئنان إليه، يُضاف إلى ذلك أنه عدم اقتناعهم بالنهج الذي اختطه العباسيون والذي ارتكز وركز على الإسلام والعروبة بسبب وجود أهداف أبعد وأعمق ومصالح واسعة ترتكز على إحياء الإرث الفارسي القديم وفتح المجال لانطلاق الآراء المجوسية.

لذلك تغير موقفهم من النظام الجديد وقاموا بحركات تمردية بهدف الإطاحة بالدولة. وكانت حركة أبي مسلم الخراساني فاتحة هذه الحركات المعادية؛ فهي صورة صادقة من المواجهة بين القوة الخراسانية المعتدة بقوتها والمتطلعة إلى النفوذ والسلطان، وبين المركزية في سلطان الخلافة.

وفي تحديد ماهية حركة أبي مسلم يتضح أن هذا الرجل كان يشعر بأنه المؤسس الحقيقى لدولة الخلافة العباسية. وأخذته العزة حين رأى إلتفاف الفرس حوله يأتمرون بأمره ويرون فيه زعيماً قومياً. وراودته أحلام طموحات شخصية، من تفرد بحكم خراسان وبلاد إيران كلها، ونزعات استقلالية أو تحقيق اللامركزية فى الممارسة السياسية والإدارية. وتدل تصرفاته بعد نجاح الثورة العباسية وعلاقته بالخلافة منذ عهد الخليفة الأول دلالة واضحة على هذا الاتجاه.

فقد ثقلت وطأة جعفر على أبي العباس، وكثر خلافه له، وردّه لأمره. وكان أبو جعفر شديد الحساسية تجاه أماله؛ فحثَّ أخاه على قتله؛ لكن السفاح لم يُبدِ ميلاً جدياً، لذلك بفعل بلائه في خدمة الدعوة العباسية بالإضافة إلى كثرة مُناصريه الذين يؤثرونه على دينهم ودنياهم، وقد يُصبحون مصدر قلق للدولة.

أما علاقة أبي مسلم بأبي جعفر، فقد كانت سيئة جداً، فقد تكونت أحداث أدّت إلى تباعد الرجلين منها:

  1. أراد أبو مسلم أن يحج في عام (‎136 هجري)‏ وكان يطمع بإمارة الحج. إلا أن الخليفة أبا العباس السفاح ولّاها أبا جعفر، مما دفع أبا مسلم إلى الغضب.
  2. يبدو أن أبا مسلم كان حريصاً على أن يُشعر أبا جعفر بقيمته، فأخذ يحط من هيبته بإنفاقه الأموال الكثيرة في إصلاح الطرق؛ وفي الترفيه عن الأعراب وبتقدمه عليه في الطريق.
  3. ولما مات السفاح وتولى أبو جعفر الخلافة، تباطأ في بيعته. وكانا عائدين من الحج؛ فكتب إليه يعزيه بوفاة أخيه دون أن يهنته بالخلافة أو يبعث إليه بالبيعة أو يتريث في طريقه حتى يلحق به مُتجنباً لقاءه مما مما أدخل الروع والقلق في نفسه.

وعندما تولى المنصور الخلافة؛ قرر التخلص منه فنهج معه أسلوباً سياسياً قائماً على الأسس التالية:

  1. إبعاده عن منطقة نفوذه في خر اسان حتى لا يؤلب عليه أهلها ويستقل بحكمها.
  2. أن يلقاه وحيداً مجرداً من النفوذ والسلطان.
  3. تلطيف الأجواء بينهما حتى يزيل الريبة من قلبه.
  4. جعله قريباً من مركز الخلافة حتى تسهل مراقبته.

وانفجرت الأزمة بين الرجلين بعد انتصار أبي مسلم على عبد الله بن علي، فقد نال على أمواله وخزائنه، فأراد المنصور أن يُحسسه بأنه أحد عماله الذي قام بذلك، فأرسل إليه رسولاً ليحصي الغنائم مما أزعجه وأغضبه وقال معلقاً على ذلك: “أمين على الدماء، خائن في الأموال”. ثم بعث إليه المنصور أن احتفظ بما في يدك. فصعب ذلك على أبي مسلم ومال إلى خلعه.

وازداد استعلاء وتكبر أبي مسلم بعد ذلك لدرجة أنه كان يأتيه الكتاب من الخليفة. فيقرأه ثم يلوي شدقه على سبيل السخرية منه، وكتب المنصور إليه يهنئه بالنصر ويبلغه بتوليته الشام ومصر، لكن أبا مسلم كان من الدهاء بحيث لم يُخدع بمثل هذه المناورة التي تهدف إلى فصله عن جنوده من أهل خراسان، وفطن لغرض المنصور وعلّق عليه بغضب قائلاً: “هو يوليني الشام ومصر وخراسان لي” وقرر العودة إلى خراسان مخالفاً بذلك أوامر الخليفة. وقد خشي هذا الأخير، من عودته ويصبح قادراً على تحدي السلطة المركزية فيصعب عند ذلك إخضاعه أو التغلب عليه.

نتييجة لهذا التطور في المواقف. لجأ المنصور إلى أسلوب الدهاء للإيقاع بعدوه. فتوجه إلى المدائن، وكتب إليه يدعوه لزيارته، وهو في طريقه إلى خراسان؛ لأمر مهم، لكن أبا مسلم أدرك مرامي الخليفة وردَّ عليه برسالة عبّر فيها عما يجيش في صدره من حذر وحقد.

لم ييأس أبو جعفر من الإيقاع بخصمه. ولجأ هذه المرة إلى أسلوب الترغيب والتهديد. ونجح رسوله إليه وهو أبو حميد المروزي في التأثير عليه وانتزع موافقته بالرغم من معارضة أركان حربه. وهكذا تحقق مثول أبي مسلم أمام المنصور بعد عدة محاولات مزج فيها الخليفة
السياسة بالتهديد.

ودارت بين الرجلين محاورة طريفة كانت أقرب إلى المحاكمة، وهي تكشف عن أعتداد أبي مسلم بنفسه وبالجهود التي بذلها في خدمة بني العباس، وتنُم عن دهاء المنصور، وخوفه من قيام القوة الخراسانية الفارسية بالانفصال عن السلطة المركزية ذلك أن هذا الرجل بدأ يشكل خطراً يهدد أمن الدولة ووحدتها، كما تدل المحاورة على عداوة قديمة بينهما إلا أنها تتضمن فى الوقت نفسه اتهاماً خطيراً لأبي مسلم بمحاولة الوصول إلى الخلافة عن طريق:

  1. تجاوز العلاقات الاجتماعية حين خطب لنفسه آمنة بنت علي عمة الخليفة.
  2. وضع نفسه في المكانة الأولى في الدولة حين كتب إلى أبي جعفر بادئاً بنفسه.
  3. ادّعاء النسب العباسي حين زعم أنه ابن سليط بنعبد الله بن عباس أي أنه جعل لنفسه مكانة مساوية لمكانة والد المنصور محمد بن علي بن عبدالله بن عباس.

أما التهم الأخرى التي وجهت إليه هي:

  1. قتله لسليمان بن كثير نقيب النقباء في خراسان.
  2. قتله لعدد من رؤساء القبائل اليمنية أمثال علي بن جديع الكرماني وأخيه عثمان.
  3. قراره بالسير إلى خراسان دون استئذان الخليفة أو أخذ موافقته.

وبعد أن انهى المنصور من مواجهة عدوه بالتهم المنسوبة إليه، ما كان من أبي مسلم جواب إلا أن يذكّر الخليفة بخدماته في سبيل الدعوة العباسية. وقبل أن تضربه السيوف، طلب النجدة بالخليفة وأخذ يعتذر أمامه عما بدر منه، لكن محاولته هذه لم تغنه عن القتل في اليوم الخامس والعشرين من شهر شعبان عام (‎137‏ هجري) شهر شباط عام (755 ميلادي).

وهكذا انهى المنصور حياة العدو الخطر الذي طالما أيّقضَ مضجعه مقدوماً بخواص شخصية وسياسية. وعندما أبدى ابن أخيه عيسى بن موسى احتجاجاً على طريقة القتل قال له المنصور: “والله ليس لك على وجه الأرض عدو أعدى منه وهل كان لكم ملك في حياته؟” وعندما علم جعفر بن حنظلة بقتل أبي مسلم قال للخليفة: “يا أمير المؤمنين عُدَّ من هذا اليوم خلافتك”. وإن دلَّ ذلك على شيء فإنه يدل على عظمة شأن أبي مسلم وقوة سلطانه.


شارك المقالة: