فلسفة بايل في المعرفة الأخلاقية

اقرأ في هذا المقال


يعتمد تفسير الفيلسوف الفرنسي بيير بايل للمعرفة الأخلاقية على وظيفة العقل التي يسميها (la droite raison) أو السبب الصحيح، وعلى الرغم من فلسفته الشكوكية ولكن يبدو أنّ بايل يعتقد أنّ ما يسميه (المفاهيم العامة) للأخلاق لها أسس راسخة بقدر ما تأتي من العقل الصحيح.

فلسفة بايل في مفهوم النور الطبيعي:

تم العثور على أشهر مثال على (فكرة عامة) تم تقديمها بالعقل الصحيح في التعليق الفلسفي لبايل، حيث يجادل بأنّ تفسير الكتاب المقدس يجب أن يكون مقيدًا بالمفاهيم الواضحة والمتميزة للنور الطبيعي وذلك فيما يتعلق بالأخلاق، ويبدو في البداية أنّ هذا الاستنتاج غير تقليدي تمامًا، وإذا تمت قراءتها في أكثر صورها تطرفاً فيبدو أنّها توحي بأنّ أي عقيدة مسيحية يدحضها العقل (النور الطبيعي) هي عقيدة خاطئة.

مع ذلك فإنّ ما يؤكده بايل هنا ليس زيفًا لأي عقيدة مسيحية ضد العقل، بل إنّه يؤكد فقط زيف عقائد معينة يُزعم أنّها موجودة في الكتاب المقدس، وبالنسبة لبايل يكشف (النور الطبيعي) عن لا أخلاقية التحولات القسرية التي ادعى الكاثوليك إيجاد تبرير لها في الكتاب المقدس وأنّ فجورهم يبطل تبريرهم المزعوم.

وهذا يسلط الضوء على أهم نتائج المقطع وهي أنّ الضوء أو النور الطبيعي يتفوق على ادعاءات العقيدة فيما يتعلق بالأخلاق، كما يستلزم شكوك بايل أنّ الضوء الطبيعي غير معصوم، ويمكن أن يكون متناقضًا مع نفسه في بعض المجالات، ومع ذلك يبدو أنّ الضوء الطبيعي يمكن الاعتماد عليه فيما يتعلق بالحقائق الأخلاقية على الأقل فيما يتعلق بتلك التي تنطبق على البشر.

فلسفة بايل في الحقائق الأخلاقية الأساسية:

يكرر بايل مصداقية الضوء الطبيعي فيما يتعلق بالحقائق الأخلاقية باستمرار في جميع أنحاء التعليق الفلسفي، وهو أمر غير مفاجئ لأنّ النص هو دفاع عن أخلاق التسامح الديني، وهذا الموقف مع ذلك يظهر في نصوص أخرى أيضًا، ففي كتابه (أفكار متنوعة) حيث يجادل بايل بأنّ الملحدين يمكن أن يكونوا أخلاقيين، يلاحظ أنّ بعض المبادئ الأخلاقية ليست عقلانية فحسب بل يمكن إسناد الثناء الأخلاقي واللوم إلى أولئك الذين يعيشون وفقًا لذلك.

يجادل بايل بأنّ الملحد لديه حق الوصول إلى السبب الصحيح والذي يؤكد الحقائق الأخلاقية الأساسية، ويقدم بايل أيضًا أمثلة على الحقائق الأخلاقية الأساسية المحددة في السؤال: “من المنطقي احترام الأب، والتمسك بكلمة المرء ومواساة المنكوبين ومساعدة الفقراء والامتنان للمتبرعين وما إلى ذلك”، فلا يوجد أي تلميح لأي من الشكوك المتشككة التي يثيرها بايل بشكل مميز، ويشير هذا إلى أنّه يستخدم مفهومًا غير متشكك للعقل عند مناقشة المعتقدات الأخلاقية الأساسية.

يقدم أحد النصوص النهائية لحياة بايل الرد على أسئلة مقاطعة للأعوام من 1704 إلى 1707 أيضًا دليلًا على إصرار بايل على الوصول العقلاني للحقائق الأخلاقية،  وموقف بايل هناك هو أنّ الملحدين يمكن أن يكونوا أخلاقيين لأنّهم يستطيعون معرفة توافق الفضيلة مع العقل الصحيح، ويقر بأنّه إذا لم يكن هذا صحيحًا -أي إذا كانت الأخلاق يمكن تصورها بوضوح فقط من خلال الوحي- فلا يمكن أن يكون الملحدين أخلاقيين، ومع ذلك وفقًا لبايل فإنّ السبب الصحيح عالمي مثل مبادئ المنطق.

لا تتمثل وجهة نظر بايل في عمله الفلسفي (الرد على أسئلة المقاطعة) في إبراز عالمية مبادئ المنطق، ولكن ببساطة الإشارة إلى أنّه إذا اعترف المرء بسلطة مبادئ المنطق فيجب أن يتمتع نوع السبب المطروح هنا -السبب الصحيح- بنفس الامتيازات، وتدعو المقاطع الأخرى في (الرد على أسئلة المقاطعة) إلى التشكيك في عالمية العقل الصحيح، لا سيما في إصدار أحكام أخلاقية حول سلوك الله، ولكن ليس فيما يتعلق بالسلوك البشري.

نظام بايل المختصر للفلسفة للأعوام من 1675 إلى 1680، وهي ملاحظات محاضرة من منصبه الأول كأستاذ في سيدان حيث يقدم معالجته الأكثر منهجية لمفهوم العقل الصحيح، وفي قسم الملاحظات حول النظرية الأخلاقية يعرّف بايل العقل الصحيح بأنّه: “الحكم الذي تصدره الروح بشكل طبيعي على الاستنتاجات العملية، أو الاستنتاجات المتعلقة بالأخلاق المستمدة من المبادئ العملية”.

وهكذا يقيد بايل نطاق العقل الصحيح للمبادئ الأخلاقية أو العملية، وعلى عكس الاستنتاجات المعقولة فقط لمفهوم متشكك للعقل، يجادل بايل بأنّ الضوء الطبيعي للعقل والذي يستخدمه بايل بالتبادل مع العقل الصحيح عندما ينير الضوء الطبيعي الأمور العملية بأنّه يكفي لمعرفة الحقيقة الأخلاقية، ومبادئ الأخلاق التي يعرفها العقل الصحيح صحيحة عالميًا وواضحًا.

علاوة على ذلك يجادل بايل بأنّ السبب الصحيح هو أيضًا المعيار الذي يتم من خلاله الحكم على جودة أفعال معينة، ومع ذلك هناك تعقيد كبير في وصف بايل للمعرفة الأخلاقية، حيث في خضم نقاش حول السبب الصحيح يقدم مفهوم الضمير، ويعرّف بايل الضمير بأنّه : حكم عملي على الفهم والذي يملي علينا أنّه يجب علينا القيام بشيء ما، باعتباره أمرًا جديرًا بالثناء، وأنه يجب علينا تجنب شيء ما أو يجب تجنبه باعتباره أمرًا مخزًا

وباختصار إنّه فهم للقانون الطبيعي الذي من خلاله يحكم كل شخص على الشيء الجدير بالثناء والذي يجب القيام به، وأي شيء آخر مخجل ويجب تجنبه، ويبدو هذا مشابهًا جدًا لوصف بايل للتوجيه الذي يقدمه السبب الصحيح.

الفرق بين الأخلاق الطبيعية والنور الطبيعي للضمير:

إنّ تفسير بايل للمعرفة الأخلاقية معقد أكثر من خلال استخدامه للغة الإنارة لوصف الضمير، فهو يدعي أنّ الضوء الطبيعي يقودنا إلى تأكيد مبادئ الأخلاق، ويشير في البداية إلى الأخلاق الطبيعية نفسها على أنّها نور معين في الروح ويلزم الاعتراف بالمبادئ العامة للأخلاق، ومع ذلك فهو يشير أيضًا إلى الضوء الذي نؤكد من خلاله مبادئ الأخلاق، والذي من المفترض أن يقودنا إلى الأخلاق الطبيعية.

يبدو أنّ هناك تمييزًا إذن بين:

1- الأخلاق الطبيعية: وهي المبادئ العامة الأولى للأخلاق والتي هي نور معين.

2- النور الطبيعي للضمير: غير مطابق للنور الطبيعي السبب، والذي من أجله لا يكون المعيار هو الجدارة بالثناء بل بالأحرى الإنصاف، وعلاوة على ذلك أولئك الذين يقودهم الضمير من المفترض فقط أن يكون لديهم أخلاق طبيعية.

طرق المعرفة الأخلاقية:

هناك علاقة واضحة لبايل إذن بين العقل الصحيح باعتباره القوة التي تؤسس المعرفة الأخلاقية، وبين طبيعتنا العقلانية أو على الأقل بقايا طبيعتنا العقلانية السابقة للهجوم، ولسوء الحظ فإنّه يفتح أيضًا إمكانية أن يرتبط التزام ضمير الفرد بالمعتقدات الأخلاقية التي كانت خاطئة، أو التي تتعارض بطريقة ما مع إملاءات العقل الصحيح إذا لم يكن الضمير موجهًا بالعقل الصحيح.

العقل الصحيح هو فحص حاسم (للمعرفة) الأخلاقية التي يوفرها الضمير بالطرق التالية:

1- يمكن أن يتأثر الضمير بالأفكار المسبقة والأخطاء، وما لم يتخلص منها فلن يكون بمثابة مرشد أخلاقي، وبالمثل نتيجة لقابليته للتأثر والخطأ يمكن إقناع الضمير خطأً بإجازة أو عدم صحة فعل معين.

2- الشخص الذي يتم إقناع ضميره خطأً لا يزال بإمكانه ارتكاب أفعال تتفق مع السبب الصحيح، على الرغم من أنّ ضميرها الخاطئ يقول أنّ مثل هذه الأفعال غير مشروعة، وبالمثل فإنّ الشخص الذي يرتكب فعلًا غير مشروع يعتبره ضميره الخاطئ مشروعًا لا يزال يتصرف ضد السبب الصحيح، على الرغم من الامتثال للضمير.

وهكذا في حين أنّ الضمير يصدر أحكامًا حول أخلاقيات أفعال معينة من قبل أفراد معينين، فإنّ العقل الصحيح هو الحكم النهائي للأخلاق بشكل عام، ويوفر هذا فحصًا خارجيًا مهمًا للضمير الذي قد يكون ضالًا.

المصدر: Pierre BaylePierre Bayle (1647–1706)Pierre Bayle, 1679, Harangue de Mr. de Luxembourg à ses juges, reprinted in E. Lacoste, Bayle: Nouvelliste et Critique, Brussels, M. Lamertin, 1929.Pierre Bayle, 1734 (2nd ed.), The Dictionary Historical and Critical of Mr Peter Bayle, trans. P. Desmaizeaux, London: Knapton , 1987, Pierre Bayle’s Philosophical Commentary. A Modern Translation and Critical Interpretation, trans. Amie Godman Tannenbaum, New York: Peter Lang.


شارك المقالة: