مفهوم التسامح في الفلسفة السياسية لدى جون لوك

اقرأ في هذا المقال


يعتبر التسامح على نطاق واسع أحد القيم الأساسية لليبرالية ففي المجتمعات الليبرالية الحديثة التي تتميز بخلافات عميقة بشأن طبيعة الخير والعدل يُنظر إلى التسامح على أنّه فضيلة ديمقراطية لا غنى عنها وجزء أساسي من الممارسة السياسية الليبرالية، وتقليديًا يُوصف التسامح بأنّه الرغبة في تحمل أو السماح بأفعال أو ممارسات للآخرين والتي لا يوافق عليها المرء والتي سيسعى المرء بخلاف ذلك إلى حظرها أو منع حدوثها.

ما هو التسامح بالمفهوم الفلسفي؟

التسامح: هو فئة كلاسيكية في النظرية السياسية الغربية ويمكن القول بأنّ الليبرالية قد تطورت كتعميم للمناقشات حول التسامح الديني من القرن السابع عشر فصاعدًا، تم تأطير العديد من المناقشات في النظرية والسياسية حول المسائل ذات الاهتمام الحالي بدءًا من النقاشات حول تشريعات حرية التعبير وخطاب الكراهية والمواقف من ممارسات مجموعات الأقليات إلى المدى المشروع لتدخل الدولة في مجالات معينة من الحياة الاجتماعية كمناقشات حول التسامح.

وقد ترى بعض أبرز النظريات في الفلسفة السياسية أنّ التسامح مفهوم مركزي فعلى سبيل المثال ليبرالية راولز السياسية، وأدى هذا الوجود المستمر لمفهوم التسامح في الفلسفة السياسية إلى تعريف موحد للتسامح ومجموعة من المناقشات المعيارية حول التسامح، حيث يُفهم التسامح بشكل معياري على أنّه يتطلب الرفض أو الكراهية والقدرة على التدخل والاكتفاء بالامتناع عن هذا التدخل.

وقد أدى هذا إلى ظهور نقاشات حول أنواع الرفض أو الكراهية المطلوبة، وما إذا كانت حالة السلطة بحد ذاتها إشكالية، وما إذا كان عدم التدخل يعتبر تسامحًا فقط إذا كان مدفوعًا بأنواع معينة من الأسباب، ومع ذلك فإنّ هذا المفهوم القياسي للتسامح يفشل بشكل غريب في التقاط بعض النقاشات البارزة التي غالبًا ما يتم تأطيرها من حيث التسامح.

وعلى سبيل المثال ليس من الواضح على الإطلاق ما إذا كان المفهوم المعياري ينطبق على الدول والأفراد الذين تنظمهم قوانين الدولة وكيف يتم ذلك، وغالبًا ما يكون من غير الواضح أيضًا ما إذا كان التسامح كما هو محددًا هو نموذج معياري أم مجرد مفهوم وصفي وما هي نقطة استخدام المفهوم في كلتا الحالتين، وهناك القليل من التفكير المفاجئ حول أهمية فضاء التسامح بين التداخل وعدم الرفض أو الكراهية، وكيف يمكن فهم التغييرات في مساحة التسامح هذه.

مفهوم التسامح لدى جون لوك:

في رسالة لوك المتعلقة بالتسامح طور العديد من خطوط النقاش التي تهدف إلى إنشاء المجالات المناسبة للدين والسياسة، وتتمثل ادعاءاته المركزية في أنّ الحكومة لا ينبغي أن تستخدم القوة لمحاولة جلب الناس إلى الدين الحقيقي، وأنّ المجتمعات الدينية هي منظمات تطوعية ليس لها الحق في استخدام القوة القسرية على أعضائها أو من هم خارج مجموعتها.

كما أنّ جون لوك كثيرًا ما يشير إلى ما يعتبره دليلًا واضحًا على النفاق أي أنّ أولئك الذين يسارعون في اضطهاد الآخرين بسبب اختلافات صغيرة في العبادة أو العقيدة، ولا يهتمون نسبيًا بالخطايا الأخلاقية الأكثر وضوحًا والتي تشكل تهديدًا أكبر على حياتهم وحالتهم الأبدية.

حجج جون لوك لمنع القوة في الدين:

بالإضافة إلى هذه الحجج الدينية السابقة وما يماثلها يقدم لوك ثلاثة أسباب أكثر فلسفية بطبيعتها لمنع الحكومات من استخدام القوة لتشجيع الناس على تبني المعتقدات الدينية:

  1. حجة لوك الأولى: يجادل بأنّ رعاية أرواح الرجال لم يلتزم بها الله ولا بموافقة الرجال، وهذه الحجة لها صدى مع بنية الحجة المستخدمة في كثير من الأحيان في الرسالتين لتأسيس الحرية الطبيعية والمساواة بين البشر، ولا توجد وصية في الكتاب المقدس تخبر القضاة بإحضار الناس إلى الإيمان الحقيقي ولا يمكن للناس الموافقة على مثل هذا الهدف للحكومة لأنّه لا يمكن للناس حسب الرغبة تصديق ما يأمرهم القاضي بأن يؤمنوا به، ومعتقداتهم هي وظيفة لما يعتقدون أنّه صحيح وليس ما يريدون.
  2. حجة لوك الثانية: هي أنّه بما أنّ سلطة الحكومة هي القوة فقط في حين أنّ الدين الحقيقي يتكون من إقناع داخلي حقيقي للعقل فإنّ القوة غير قادرة على جلب الناس إلى الدين الحقيقي.
  3. حجة لوك الثالثة: هي أنّه حتى لو كان القاضي قادرًا على تغيير آراء الناس، فإنّ الموقف الذي يقبل فيه الجميع دين القاضي لن يجلب المزيد من الناس إلى الدين الحقيقي ويعتقد العديد من حكام العالم أنّ الأديان الباطلة.

آراء المفكرين والفلاسفة على حجج جون لوك:

رأي المفكر جوناس بروست:

رد معاصر لوك جوناس بروست (1999) بالقول إنّ حجج لوك الثلاث تصل في الحقيقة إلى اثنتين فقط وأنّ الإيمان الحقيقي لا يمكن فرضه وأنّه ليس لدينا سبب آخر للاعتقاد بأننا على حق أكثر من أي شخص آخر، وجادل بروست بأنّ القوة يمكن أن تكون مفيدة في توصل الناس إلى الحقيقة “بشكل غير مباشر وعن بعد”، وكانت فكرته أنّه على الرغم من أنّ القوة لا يمكن أن تحدث تغييرًا مباشرًا في العقل أو القلب إلّا أنّها يمكن أن تدفع الناس إلى التفكير في الحجج التي قد يتجاهلونها أو يمنعونهم من سماع أو قراءة أشياء من شأنها أن تضلهم.

فإذا كانت القوة مفيدة بشكل غير مباشر في جلب الناس إلى الإيمان الحقيقي فإنّ لوك لم يقدم حجة مقنعة، أما بالنسبة إلى حجة لوك حول الأذى الذي يلحق بقاضي دين زائف باستخدام القوة للترويج له فقد ادعى بروست أنّ هذا الأمر غير ذي صلة لأنّ هناك فرقًا وثيق في الصلة أخلاقياً بين التأكيد على أنّ القاضي قد يروج للدين الذي يعتقد أنّه صحيح وبين التأكيد على أنّه يجوز له والترويج للدين الحقيقي، كما يعتقد بروست أنّه ما لم يكن المرء متشككًا تمامًا فإنّه يجب على المرء أن يعتقد أنّ أسباب موقف المرء أفضل من الناحية الموضوعية من تلك الخاصة بالمناصب الأخرى.

رأي المفكر جيريمي والدرون:

جيريمي والدرون (1993) كرر جوهر اعتراض بروست للجمهور المعاصر وجادل بأنّه بغض النظر عن حجج لوك المسيحية كان موقفه الرئيسي هو أنّه من غير المنطقي من وجهة نظر المضطهد استخدام القوة في مسائل الدين لأنّ القوة تعمل فقط على الإرادة والإيمان ليس شيئًا نغيره، أمّا في الإرادة أشار والدرون إلى أنّ هذه الحجة تعيق سببًا واحدًا محددًا للاضطهاد وليس كل الأسباب.

وبالتالي لن يوقف الشخص الذي يستخدم الاضطهاد الديني لغرض آخر غير التحويل الديني مثل الحفاظ على السلام حتى في الحالات التي يكون فيها للاضطهاد هدف ديني، ويتفق والدرون مع بروست على أنّ القوة قد تكون فعالة بشكل غير مباشر في تغيير معتقدات الناس، وتركز بعض المناقشات الحالية حول مساهمة لوك في الفلسفة السياسية المعاصرة في مجال التسامح على ما إذا كان لدى لوك رد جيد على هذه الاعتراضات من بروست ووالدرون.

رأي المفكرين توكنيس وريتشارد تيت:

يجادل (Tuckness) توكنيس- عام 2008b وريتشارد تيت – 2016 بأنّ لوك قام بإلغاء التأكيد على حجة العقلانية في كتاباته اللاحقة.

رأي المفكرة سوزان ميندوس:

يحاول بعض المعلقين المعاصرين إنقاذ حجة لوك من خلال إعادة تعريف الهدف الديني الذي يفترض أن يسعى إليه القاضي، وتشير سوزان ميندوس (1989) على سبيل المثال إلى أنّ غسيل الدماغ الناجح قد يتسبب في أن يتفوه الشخص بصدق بمجموعة من المعتقدات لكن هذه المعتقدات قد لا تعتبر حقيقية، قد تكون المعتقدات الناتجة عن الإكراه مشكلة مماثلة.

رأي المفكر بول بو حبيب:

يقول (Paul Bou Habib) بول بو حبيب عام 2003 إنّ ما يسعى إليه لوك حقًا هو تحقيق صادق وأنّ لوك يعتقد أنّ التحقيق الذي تم إجراؤه فقط بسبب الإكراه هو بالضرورة غير صادق، وبالتالي تحاول هذه الأساليب إنقاذ حجة لوك من خلال إظهار أنّ القوة حقًا غير قادرة على تحقيق الهدف الديني المنشود.

رأي المفكر ديفيد ووتون:

يركز المعلقون الآخرون على حجة لوك الأولى حول السلطة المناسبة وخاصة على فكرة أنّ التفويض يجب أن يكون بالموافقة، ويجادل ديفيد ووتون (1993) بأنّه حتى لو عملت القوة في بعض الأحيان على تغيير معتقد الشخص فإنّها لا تعمل في كثير من الأحيان بما يكفي لجعل من المنطقي أن يوافق الأشخاص على ممارسة الحكومة لتلك السلطة، والشخص الذي لديه سبب وجيه للاعتقاد بأنّه لن يغير معتقداته حتى عندما يتعرض للاضطهاد لديه سبب وجيه لمنع سيناريو الاضطهاد من الحدوث على الإطلاق.

رأي المفكر ريتشارد فيرنون:

يجادل ريتشارد فيرنون (عام 1997) بأننا لا نريد فقط التمسك بالمعتقدات الصحيحة ولكن أيضًا الاحتفاظ بها للأسباب الصحيحة، ونظرًا لأنّ توازن الأسباب بدلاً من ميزان القوة يجب أن يحدد معتقداتنا فلن نوافق على نظام قد تؤثر علينا فيه أسباب غير ذات صلة للاعتقاد، ويجادل ريتشارد تيت (2016) بأنّ أقوى حجة لوك للتسامح متجذرة في حقيقة أننا لا نوافق على إعطاء سلطة حكومية في هذا المجال وفقط تعزيز مصالحنا العلمانية والمصالح التي اعتقد لوك أنّ سياسة التسامح ستزيد.

لا يزال معلقون آخرون يركزون على الحجة الثالثة القائلة بأنّ القاضي قد يكون مخطئًا، وهنا السؤال هو ما إذا كانت حجة لوك هي استجواب أم لا؟ وفيما يلي أكثر سطرين واعدين للحجة، حيث يجادل ووتون (1993) بأنّ هناك أسبابًا جيدة جدًا من وجهة نظر فرد معين للاعتقاد بأنّ الحكومات ستكون مخطئة بشأن الدين الصحيح، إنّ الدافع وراء الحكومات هو السعي وراء السلطة وليس الحقيقة ومن غير المرجح أن تكون مرشدة جيدة في الأمور الدينية، نظرًا لوجود العديد من الديانات المختلفة التي يعتنقها الحكام وإذا كان أحدها صحيحًا فمن المحتمل أن تكون آراء حاكمي غير صحيحة.

وهكذا يرى ووتون أنّ لوك يوضح أنّه من غير المنطقي من منظور الفرد الموافقة على الترويج الحكومي للدين، وتم تقديم تفسير مختلف للحجة الثالثة بواسطة توكنيس (Tuckness) حيث يجادل بأنّ احتمال أن يكون القاضي مخطئًا يولد مبدأ التسامح بناءً على ما هو عقلاني من منظور المشرع وليس منظور المواطن أو الحاكم الفردي، وبالاعتماد على كتابات لوك اللاحقة حول التسامح يجادل بأنّ نظرية لوك للقانون الطبيعي تفترض أنّ الله بصفته مؤلفًا للقانون الطبيعي يأخذ في الحسبان قابلية الخطأ للقضاة الذين سينفذون أوامر القانون الطبيعي.

إذا كان “استخدام القوة للترويج للدين الحقيقي” أمرًا من أوامر القانون الطبيعي الموجهة إلى جميع القضاة فلن تروج للدين الحقيقي في الممارسة العملية لأنّ العديد من القضاة يعتقدون خطأً أنّ دينهم هو الدين الحقيقي، ويدّعي توكنيس Tuckness أنّه في كتابات لوك اللاحقة حول التسامح ابتعد عن الحجج القائمة على ما هو منطقي من الناحية العملية أن يوافق عليه الفرد، وبدلاً من ذلك شدد على قابلية الإنسان للخطأ والحاجة إلى مبادئ عالمية.

المصدر: جون لوك إمام الفلسفة التجريبية، د. رواية عبد المنعم عباس، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت 1996. جون لوك في الحكم المدني، ترجمة ماجد فخري، اللجنة الدولية لترجمة الروائع، بيروت 1959.John Locke: Political PhilosophyThe politics and ethics of toleration: introductionLocke’s Political Philosophy


شارك المقالة: