فلسفة كريسيبوس المعرفية والرواقيون

اقرأ في هذا المقال


ولد كريسيبوس في سولي بالقرب مما يعرف اليوم باسم مرسين في تركيا، ويذكر ديوجينس لايرتيوس في كتابه (حياة الفلاسفة) أنّه قبل أن يصبح طالبًا في كلينتيس اعتاد كريسيبوس أن يتدرب كعداء لمسافات طويلة وكان بارعًا في الديالكتيك.

فلسفة كريسيبوس والفلسفة الرواقية:

عندما كريسيبوس كان شابًا شق طريقه إلى أثينا حيث كان كلينتيس مديرًا للمدرسة الرواقية، ولفترة من الوقت يبدو أنّ كريسيبوس قد انجذب إلى تعاليم أركسيلاوس رئيس الأكاديمية الأفلاطونية والمبادر لمرحلة الشك في تاريخ الأفلاطونية، ولكنه في النهاية ألقى الكثير من الرواقية.

ومع ذلك يجب أن يكون أي تأثير تمارسه منظمة كلينتيس على المستوى العقائدي فقط، ولا يبدو أنّ علاقاتهم الشخصية كانت أسعد، ومن الواضح أنّ كريسيبوس كان يحترم معتقدات كلينتيس أكثر من قدرته على الدفاع عنها، وفي إحدى المرات طلب من كلينتيس تزويده بالعقائد وسيقوم هو بنفسه بتقديم البراهين، ووفقًا لكاتب سيرته الذاتية القديم فقد انفصل في النهاية عن كلينتيس وأنشأ كمدرس رواقي في حد ذاته، في 232 قبل الميلاد خلف كلينتيس كرئيس لستوا واحتفظ بالكرسي حتى وفاته.

يعتقد معظم الناس وفقًا لديوجينس لايرتيوس أنّه إذا اتخذت الآلهة جدلية فلن تتبنى أي نظام آخر غير نظام كريسيبوس، وخلف كلينتيس زينو الذي أسس المدرسة في ستوا بويكل في عام 262 قبل الميلاد، وعاد كريسيبوس بعد أن درس خارج المدرسة لعدة سنوات ليخلف معلمه السابق عام 230 قبل الميلاد، واستمرت الرواقية في الازدهار بعد وفاته حيث بدأ العمل من قبل الرواقيين الأوائل في عصر بانيتيوس وبوسيدونيوس، ثم في فترة الإمبراطورية الرومانية من قبل مفكرين مثل سينيكا وإبكتيتوس وماركوس أوريليوس.

كان كريسيبوس من بين أكثر الفلاسفة تأثيرًا في الفترة الهلنستية، وعادة ما يُنظر إليه على أنّه أهم تأثير على الرواقية، وتم تشغيل عبارة شعار رواقية لاحقة: “إذا لم يكن كريسيبوس موجودًا فلن يكون ستوا أيضًا”، وقام كارنيديس الرئيس الرابع للأكاديمية الجديدة بتعديل العبارة إلى: “إذا لم يكن كريسيبوس موجودًا فلن أكون كذلك”، ودافع كريسيبوس عن نظرية المعرفة وعلم النفس التجريبيين وطورهما، وقدم بدائل مهمة للنظريات الميتافيزيقية لأرسطو وأفلاطون ودافعًا عن الأنطولوجيا المادية الشاملة.

وتستمر آرائه المتعلقة بالحرية والحتمية في توليد الاهتمام، ويُعتقد أنّه أيد شكلاً من أشكال التوافق الذي يقر حرية الإرادة والكون الحتمي، وكان عمله في المنطق كبيرًا حيث طور كبديل لمنطق أرسطو نوعًا من منطق الافتراض، وبصفته عالمًا في الأخلاق أكد أنّ حياة السعادة الإنسانية وحياة الفضيلة واحدة ومشابهه.

يبدو أنّه يعتقد أنّه من الأفضل فهم الفضيلة على أنّها مرتبطة بشكل أساسي بالحكمة وإن لم تكن قابلة للاختزال بالكامل، وكان يعتقد أنّ الحكمة تنبع بشكل خاص من دراسة الفلسفة الطبيعي، ويمكن تفسير كون كريسيبوس يستمد الحكمة بشكل أساسي من دراسة الفلسفة الطبيعية جزئيًا من خلال اقتناعه بأنّ الكون موجود وفقًا لغايات مناسبة.

مصادر فلسفة كريسيبوس:

كان كريسيبوس كاتبًا غزير الإنتاج، فقد ورد أنّه كتب أكثر من 705 كتابًا، ولكن لم يبقَ أي كتاب ولدينا أجزاء متوفرة من 475 قطعة، وتبرز رسالتان من كتابات التمثال من حياة ديوجين لارتيوس للفلاسفة فيما بعد وما فوق (حياة)، وآراء الفيلسوف الزائفة لبلوتارخ حول الطبيعة، كما كتب شيشرون العديد من الأعمال التي تفيد في إعادة بناء الفكر الرواقي من أكاديمي (Academica) والنهايات (De Finibus) وطبيعة الآلهة (De Natura Deorum) من بين أهم الأعمال.

تحتوي هذه على ملخصات وتقييمات نقدية لآراء المدارس الفلسفة الهلنستية، وعلى الرغم من أنّ شيشرون يتطابق مع الأكاديميين إلّا أنّه لا يخلو من التعاطف مع الفلسفة الرواقية، ومن هذه المصادر في المقام الأول حاول العلماء تجميع مجموعة من الشذرات والشهادات التي تقدم صورة متماسكة عن الرواقية والفلاسفة الرواقيين.

يعد شظايا رواقية قديمة (Stoicorum Veterum Fragment) المشار إليه فيما بعد (SVF)، والذي تم تجميعه في ثلاثة مجلدات بواسطة العالم اللغوي الألماني هانز فون أرنيم (Hans von Arnim) كأحد أهم مجموعات الأجزاء في اليونانية واللاتينية، ومن المعتاد الإشارة إلى الأجزاء الرواقية من خلال استخدام مجلد فون أرنيم نظام الأرقام والترقيم.

في الآونة الأخيرة أنتج ديفيد سيدلي وأنتوني آرثر لونج ترجمة إنجليزية وتعليقًا للمصادر الرئيسية للفلسفة الهلنستية والفلاسفة الهلنستيون فيما بعد، ويمكن العثور على النصوص اليونانية واللاتينية المقابلة مع الملاحظات والببليوغرافيا في المجلد الثاني من هذا العمل.

الفلسفة المعرفية:

عرّف زينو مؤسس الرواقية التقديم على أنّه انطباع (phantasia) على الروح، ولقد أهمل الإشارة إلى ما كان يقصده بـ (الانطباع) الذي يقترحه الجدل بين كلينتيس وكريسيبوس فيما يتعلق بتفسير هذا المصطلح، وأكد كلينتيس أنّ الشيء يطغى على الروح تمامًا كما يطغى خاتم الخاتم نفسه على ختم الشمع -وهذه استعارة استخدمها أفلاطون في (Theaetetus)-، كما يرفض كريسيبوس هذا النموذج بالقول إنّه إذا كانت الروح مثل قطعة من الشمع (مع وجود سطح واحد فقط مكشوف)، فقد تتلقى فقط انطباعًا واحدًا في كل مرة.

علاوة على ذلك سيضيع كل انطباع لأنّ الصورة التالية ستصطدم بالأول، ومع ذلك فإنّ الروح كما يجادل كريسيبوس تتلقى عددًا من الانطباعات دفعة واحدة، وهي في الواقع تحتفظ ببعض الانطباعات أثناء تلقيها للآخرين، وبدلاً من نموذج الشمع يجادل كريسيبوس بأنّ الروح أقرب إلى الهواء حيث أنّ الهواء قادر على الخضوع لعدد من التعديلات في وقت واحد، كما يحدث عندما يتحدث عدد من الأفراد في نفس الوقت في نفس المكان.

في الواقع الروح حسب كريسيبوس الذي كان ماديًا متعمقًا هي مزيج من الهواء والنار، ويبدو أنّ كريسيبوس يقبل وجهة نظر واقعية غير مباشرة للإدراك، حيث يمكن أن يمثل الانطباع كائنًا خارجيًا، حيث يقول كريسيبوس أنّ هؤلاء الأربعة من الانطباع والمؤثر والخيال والنسج يجب تمييزهم عن بعضهم البعض، فالانطباع هو عاطفة تحدث في النفس وتكشف عن نفسها وسببها.

وهكذا عندما نلاحظ من خلال البصر شيئًا أبيض فإنّ المودة هي ما تتولد في الروح من خلال الرؤية، وهذه العاطفة هي التي تمكننا من القول إنّ هناك جسمًا أبيض ينشطنا، وكلمة انطباع (phantasia) مشتق من كلمة ضوء (phõs)، ومثلما يكشف الضوء عن نفسه وأي شيء آخر يتضمنه في نطاقه، كذلك يكشف الانطباع عن نفسه وسببه، ومع ذلك ليس كل عرض تقديمي دقيق، حيث تفتقر بعض العروض التقديمية إلى المؤثر المقابل، وعلى الرغم من أننا نرى ما يبدو أنّه كلينت إيستوود على الشاشة الفضية، فلا أحد يعتقد أنّ كلينت موجود بالفعل هناك.

يعتبر كريسيبوس عرضًا تقديميًا مثل هذا العرض نتيجة للخيال أو (phantastikon)، فالعرض التقديمي الذي يُعتقد ولكنه يفتقر إلى كائن حقيقي أساسي، فعلى سبيل المثال تنين الجحيم كما يبدو لأوريستس سيتم تصنيفها على أنّها نسج أو وهمي، إذن فالخيال هو جاذبية فارغة وعاطفة في الروح تنبع من عدم التأثير، والنسج هو ما ننجذب إليه في جاذبية الخيال الفارغة، ويحدث في الأشخاص الذين يعانون من الكآبة والجنون.

المصدر: Chrysippus (c. 280—207 B.C.E.)ChrysippusJosiah B. Gould, The Philosophy of Chrysippus, Albany, SUNY Press, 1970.Susanne Bobzien, Determinism and Freedom in Stoic Philosophy, Oxford: Oxford University Press, 2001.


شارك المقالة: