أولى علماء النحو والبلاغة عناية فائقة في ما يسمى بالتقديم والتأخير لما له من أهمية بالغة، وذلك بسبب أن الجملة في اللغة العربية رتبت ترتيباً محكماً، فلذلك تغيير ترتيب الكلمات داخل الجملة سيغير معناها، وهو أحد أساليب البلاغة، ومما لا شك فيه أن القرآن نزل بلغة العرب.
التقديم والتأخير في القرآن الكريم
التقديم هو الذي يقدم شيء على شيء، والتأخير هو نقيضه، والمقدم والمؤخر هما أسماء من أسماء الله الحسنى.
أنواع التقديم والتأخير في القرآن الكريم
فواتح السور
فهو جاء لمعنى أراده الله سبحانه وتعالى، وهو ما يسمى بالشعر حسن الابتداء أو براعة الاستهلال، وقد تنوع الاستفتاح في بداية كل سورة إلى عشرة أنواع:
1- ما جاء بالمدح والتنزيه لله سبحانه وتعالى، لإثبات صفات المدح والتنزيه عن صفات النقص وجاءت في أربعة عشر موضع في القرآن، نحو قوله تعالى: “الْحَمْدُ لِلَّهِ” (سورة الفاتحة:1)، وقوله تعالى: “تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ” (سورة الفرقان:1).
2- ما جاء بالنداء نحو قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ” (سورة المزمل:1)، ونحو: “يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ” (سورة المدثر:1)، وقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا” وقد وردت في القرآن الكريم في عشر سور.
3- ما استفتح بجملة خبرية وقد جاءت في القرآن الكريم في ثلاث وعشرين سورة، منها ما جاء بالقسم ومنها ما جاء بالشرط والاستفهام والأمر والتعليل.
4- الاستفتاح بالحروف الهجائية أو المقطعة نحو :”ألم”، و”حم”، و”ألمص”، و”ص” وتجد أنه أينما ذكرت الحروف الهجائية في فواتح السور يأتي ما بعدها غالباً للحديث عن القرآن الكريم وإعجازه.
خواتيم السور
والذي غالباً ما يتناسب مع السورة، وتختم السورة إما بعِظة وعبرة أو بتمهيد للسورة التي بعدها، أو بأمر أو نهي.
الترتيب في الآية الواحدة
فلا تجد في آيات القرآن الكريم أي تشتيت أو تنافر بين الكلمات فكلها متناسقة، جاءت مرتبة لتؤدي هدف أراده الله سبحانه وتعالى.
خواتيم الآيات
وهي الكلمة في آخر الآية والتي تسمى أيضاَ بالفاصلة، وهي كقافية الشعر وقرينة السجع، وجاءت في القرآن الكريم بمواضع كثيرة منها:
1- تقديم المعمول على العامل نحو قوله تعالى: “أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ” (سورة سبأ:40) وذلك بتقديم الملائكة بقوله إياكم على الكفار.
2- تقديم الزمان المتأخر نحو قوله تعالى: “فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأولَى” (سورة النجم:25).
3- تقديم الفاضل على المفضول أو الأفضل نحو قوله تعالى: “بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى” (سورة طه:70).
الترتيب بين السور
وجاء ترتيب السور في القرآن الكريم كما قال بعض العلماء بأنه أمر توقيفي والبعض منهم ذكر أنه اجتهادي، وبالرغم من اختلاف ترتيبها الزماني، إلا أنها رتبت بطريقة جاءت مفيدة.
أسباب التقديم والتأخير في القرآن الكريم
أولاً: تقديم الفاعل على المفعول به والمبتدأ على الخبر.
ثانياً: لبيان المعنى وعدم الإخلال به، فإذا تبين أنه من باب التقديم والتأخير يذهب عنها الإشكال، نحو قوله تعالى: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قِيَمًا” (سورة الكهف:1)، أي أنزل على عبده الكتاب قيماً لا عوج فيها.
ثالثاً: التقديم لرعاية الفواصل كما في قوله تعالى: “فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى” (سورة طه:67)، فجاءت كلمة في نفسه مقدمة على موسى رعاية للفاصل، ولو أخرها لذهب تناسب الفواصل.
رابعاً: التأخير ليتناسب مع ما بعده كما في قوله تعالى: “وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ” (سورة إبراهيم:50)، وجاء تأخير الفاعل عن المفعول به ليتناسب مع ما بعده وهو قوله تعالى: “لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ” (سورة إبراهيم:51). فالنار هي جزاء الكفار تأخرت لتتناسب لما بعده.
خامساً: التقديم للعظمة مثل قوله تعالى بتعظيم أمر الصلاة : “وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ” (سورة البقرة:43)، فقد بدأ بالصلاة لأنه أهم من الزكاة، وقوله تعالى: “وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ” (سورة المائدة:92)؛ لأن طاعة الله أولى فقدمها على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
سادساً: التقديم للشرف وهو أنواع:
1- شرف الرسالة: كما في قوله تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ” (سورة الحج:52) فالرسول أفضل من النبي.
2- شرف الحرية: كقوله تعالى: “الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ” (سورة البقرة:178).
3- شرف الإيمان: كقوله تعالى: “وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا” (سورة الأعراف:87).
في الختام كتاب الله المعجز هو خير ما ينصرف إليه البشر خدمةً وتعلماً وحفظاً، فهو لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو الهدى للمتقين، وهو معجزة الله الخالدة الباقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فلا تنتهي عجائبه، ولا تنفد كلماته ولا علومه.