بعض من معجزات عيسى عليه السلام:
قال الله تعالى: “أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ” آل عمران:49.
إنّ كل إنسان يستطيع أن يصنع من الطين تماثيل كهيئة الطير لكن الله تعالى خصّ عيسى عليه السلام بمعجزة أنه يخلق من الطين وينفخُ فيه، وقد نسأل فيم يُنفخ؟ أينفخُ في الطير أم في الطين، أم في الهيئة؟ فإذا قلنا: إنّ النفخ في الطين بعدها صار طيّراً، فيكون النفخ في الطين مثل النفخ في الطير، وجاء في آيةٍ أخرى أنها نفخ في الهيئةِ وذلك في قوله تعالى: “وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ” المائدة:110.
إنّ النفخ “فيها” تكون للطين أو للطير، والنفخُ “فيها” تكون للهيئةِ، وهناك آية أخرى بالنسبةِ للسيدة مريم البتول: “وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ” التحريم:12. إنّ االنفخ هنا في الفرج. وفي الآيةِ الأخرى قال تعالى: “وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ” الأنبياء:91. أي في مريم عليها السلام، فمرةً يقول: “فنفخنا فيهِ” أي في الفرج، ومرةً يقول: “فتنفُخُ فيها” أي فيها هي، والقولان متساويان.
وهنا في هذه الآية نجد أن الإعجاز ليس في أن عيسى صتع من الطين كهيئة الطير؛ لأن أي إنسان يستطيع أن يفعل ذلك، فكأنه حينما قال: “أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ” كأن صار طيراً من الطين فأي إنسان يمكن أن يفعلها؛ ولكنك: “بإذن الله” تجمع بين الشكل وصناعة الطين كهيئة الطير، فيكون طيراً بإذن الله. لم يكن عيسى عليه السلام ليتجرئ ويصنع ذلك كله إلا بإذن الله تعالى، فقد جاءت كلمةُ “بإذن الله” من قول عيسى وعلى لسانه، فهذا اعترافٌ منه بأن ذلك ليس من صناعتهِ، وكأنه عليه السلام يقول لقومهِ: إنّ كنتم فُتنتم بهذا فكان يجب أن تُفتنوا بإبراهيم عليه السلام من من باب أولى، حينما قطّع الطير وجعل على كلِ جبلٍ جزءاً منهن ثم دعاه.
ومن معجزاته النبي عيسى أيضاً عليه السلام: “وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ” آل عمران:49. لماذا هذين المرضين بالذات خص بهما؛ لأنهما كانا من الأمراض المستعصيةِ في ذلك الوقت. والأكمة هو الذي وُلد أعمى، أي لم يحدث له العمى بعد ميلادهِ، والبرص هو أن تبيض بقعة من الجلد وإنّ كان صاحبه أسود. ثم تظهر بعد ذلك بقعٌ متناثرة في جميع الجسم بيضاء اللون، مما يدل على أن الجلد صار أرص، وهو مرضٌ صعب لم يكن باستطاعتهم أن يداووه، فلما أرسل الله تعالى عيسى ابن مريم إلى قومه أعطاه الله سبحانه وتعالى الآية من جنسٍ ما نبغوا فيه وهو الطب، وجاء لهم بآيةٍ فيه هي إبراء ما كانوا عاجزين عنه.
وهناك بعضٌ من الذين يحاولون أن يقربوا بين المعجزة وعقول الناس يقولون: إنّ هذه المعجزات إنما هي سبقٌ زمنٌ، بمعنى أنه من الممكن أن يتوصل الإنسان إلى أن يكتشف علاجاً لهذه الأمراض، ولهؤلاء نقول: لا لنأخذ كل أمرٍ بأدواتهِ، إنّ عيسى ابن مريم عليهما السلام كان يُبرئ بالكلمةِ والدعوةِ، فمهما تقدم العلم فلن يستطيع أن يُبرئ المرض بالكلمة والدعوة، إنما سيأخذون أشياء ويقومون بتحليل هذه الأشياء، وخلط الكيماويات وإجراء الجراحات؛ لذلك تظلُ المعجزة التي جاء بها عيسى ابن مريم عليهما السلام معجزةً؛ لأنه كان يُبرئ بالكلمةِ والدعوةِ.
شريعة عيسى عليه السلام:
وقوله تعالى: “وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ” آل عمران:50. فقد قيل في هذه الآيةِ:”وَمُصَدِّقًا” أي أنّ ما جاء به عيسى ابن مريم هو مُطابقاً لما جاء في التوراة، وقلنا إن ما بين يدي الإنسان هو الذي سبقهُ، أي الذي جاء من قبلهِ وصار أمامة، وما دام عيسى ابن مريم مُصدقاً لما بين يديه من التوراة في زمانهِ، وكانت التوراةُ موجودةً فلماذا جاء إذن؟ جاء بأحكامٍ جديدةٍ، ويتضحُ ذلك في قول الله تعالى قول عيسى عليه السلام لقومهش: “وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ“.
إنّ الأمرُ هنا ليس فقط التصديق، بل أنّ عيسى عليه السلام جاء ليحلّ بعضاً من الذي حرمتهُ التوراة. ويقولُ قائل، إذا كانت الكتب السماوية تاتي مصدقةً بعضها بعضاً، فما هي فائدةُ توالي نزول الكتب السماويةِ؟ فالإجابةُ هنا هي أن فائدة الكتب السماوية اللاحقة بأنها تُذكر من غفلَ عن الكتب السابقةِ، وهذا في المرتبةِ الأولى.
أما الثانيةُ: تأتي الكتب السماوية بأحكامٍ تناسب التوقيتات الزمنية التي تنزلُ فيها الكتب. فهذه كلها تسمة فوائد الكتب السماوية التي توالي نزولها من الحق سبحانه على رسله، وإنها تُذكر من غفل وتعدلُ بعض الأحكام. ومن المُسلمات أننا جميعاً نفهمُ بأن العقائد لا تبديل فيها وكذلك تأتي الأخبار والقصص؛ لكن التبديل يشملُ بعضاً من الأحكام التي تُناسب عصر الرسالة وما بعدها لحين إرسال رسول آخر وهكذا، إلى أن ختمت الرسالات برسالة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، ولهذا كان مما أرسل به عيسى ابن مريم عليهما السلام ما جاء في قوله: “وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ” فالبعض يعرف أن القوم الذي أرسل الله عيسى ابن مريم إليهم هم بنو إسرائيل، والتحريم والتحليل يكون لحكمة من الله.
إن لله حكمةٌ فيها يُحلل وحكمةٌ فيها يُحرم:
ليس بالضرورة أنّ كل شيءٍ يُحرمهُ الله يكون ضارّاً، فقد يُحرم الله لسببٍ آخر، وهو تأديب الخلق، فيأمر بالتحريم، ولذلك لا يجب أن نسأل عن الضرر فيما حرم الله، فقد يعيشُ المؤمن دنياه ولم يُثبت له ضرر بعض ما حرم الله، فإن تسأل عن الضرر فيما حرم الله، نقول له: من الذي قال لك إن الله حين يُحرم الشيء الضار فقط. إن الحق سبحانه يحرم الضار ويُحرم بعض ما هو غير ضار؛ دليل ذلك قول الحق سبحانه وتعالى: “فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا” النساء:160.