أساليب الشعر في العصر العباسي الأول وأوزانه ومعانيه

اقرأ في هذا المقال


ظهرت الحياة في الفترة العباسية أكثر تطورًا وتألقًا على غير صورتها في الفترات السابقة، وخصوصًا في مجال الأدب، وكان لعمليات الفتح دور في توسع بلاد الإسلام، وبذلك امتزج المسلمين بغيرهم من الحضارات مما أثرى الحركة الأدبية والفكرية في هذه الفترة، حيث أخذ أهل المشرق من هذه الشعوب ثقافتهم ما يناسبهم وتركوا غير ذلك، وكل هذا أدى إلى الخروج عن المألوف في الأدب والشعر وإحداث نقلة نوعية في تطور الآداب آنذاك.

أساليب الشعر في العصر العباسي الأول

ازدهرت أساليب نظم الكلام المشرقي في الفترة العباسية ويرجع سبب ذلك إلى تفاعل أهل الشعر في هذه الفترة، مع الثقافات الغربية، حيث تفاعل المسلمين مع هذه الثقافات والاستفادة منها. 

ومع ازدهار الحياة في هذه الفترة فقد توجه الشعراء إلى استعمال الأساليب البسيطة التي لا يوجد فيها تعقيد، والأساليب الواضحة المتناسقة مع الوضع، وابتعدوا عن استعمال الألفاظ الغربية كما تركوا المفردات البدوية التي كانت تميل إلى القوة والجزالة.

كما أكثروا من المحسنات فنجد أشعارهم تعج بالمحسنات وكذلك المفردات الحديثة؛ لتواكب التطور في الحياة من هذا الزمن، ومال أغلب أهل الشعر أيضًا إلى استعمال المفردات الأجنبية في أبياته.

تنازل أهل الشعر في تلك الفترة عن الكثير من الأساليب التي كان متعارف عليها قبل ذلك مثل ترك ذكر الأطلال في البداية، كذلك الغزل من أجل جذب المتلقي، حتى وصل بهم الأمر إلى الاستهزاء من أهل الشعر الذين حافظوا على الأنماط القديمة في نظم الكلام مثل قول أبو نواس:

قل لمن يبكي على رسم درس

واقفا ما ضر لو كان جلس

اترك الربع وسلمى جانبا

واصطبح كرخيةً مثل القبس

بنت دهر هجرت في دنِها

ورمت كل قذاةٍ ودنس

كدم الجوف إذا ما ذاقها

شارب قطَّب منها وعبس

كما لجأ الشعراء في هذا الوقت إلى توظيف مفردات علمية ومصطلحات لغوية في أبياتهم مثل قصائد الشمقمق عندما تكلم عن الخمر:

خرقاء يلعب بالعقول حبابها

كتلاعب الأفعال بالأسماء

وقول الشمقمق أيضًا:

لن ينال العلا خصوصًا من الفتيان

من لم يكن نداه عموما

ونرى قصائدهم تعج بالمحسنات مثل الجناس والتشبيه وغيره، حيث أبدع أهل الشعر بزخرفة أشعارهم بهذه المحسنات قدر المستطاع ومثال على ذلك ينظم البحتري:

فلم أر مثلينا أو مثل شأننا

نعذب أيقاظا وننعم هجدا

كما نرى المحسنات في قصيدته التي تعج بالطِباق والاستعارة حيث يقول:

أكان الصبا إلا خيالًا مُسلّما

أقام كرجع الطرف ثم تصرَّفا

أرى أقصر الأيام أحمدَ في الصبا

وأطولها ما كان فيه مذَّمما

تلومت في غىِّ التصابي فلم أُرد

بديلًا به لو أنَّ غيًّا تلوَّما

ويوم تلاقٍ في فراقٍ شهدتُهُ

بعينٍ إذا نهنهتها دمعت دما

كما لجأ أهل الشعر في هذه الفترة إلى استعمال المفردات الأعجمية غير العربية في قصائدهم؛ نتيجة اختلاطهم بالشعوب الأخرى مثل الألفاظ الفارسية أمثال ابن المعتز والذي يقول:

قم نصطبح في ليالي الوصل مقمرة

كأنها باجتماع الشمل اسحار

أما ترى أربعا للهو قد جمعت

جنك وعود وقانون ومزمار

فخذ بحظٍ من الدنيا فلذَّتها

تغنى وتبقى رواياتٌ وأخبار

أيضًا نرى في قصائدهم أساليب حديثة مثل دخول المفردات العلمية وكلمات فلسفية، مثال على ذلك كلام الشاعر:

وذي هيئة يزهو بخالٍ مهندسٍ

أموت به في كل وقت وأبعثُ

فعارضه خطَّ استواء وخالهُ

به نقطة والخد شكل مثلَّثُ

تطورات معاني الشعر في العصر العباسي الأول

إن لازدهار الحياة الثقافية في الفترة العباسية أثر في تطور معاني نظم الكلام، حيث أثرت قريحة الشعراء، مما جعلهم يبدعون في معاني الشعر وأحسنوا التصوير وانطلقوا في مخيلتهم إلى آفاق رحبة.

وتجلت روعة معانيها الشعرية في التشبيه والاسترسال بالخيال الشعري يرافقه المحسنات في الألفاظ ووضوح في التراكيب، وكل هذا جعلهم ينتجون أبداعًا شعريًا مميزًا كما لجأوا إلى تجديد وتحوير المعاني السابقة وجعلها تتناسب مع الأدب الحديث مثال على هذا شعر سلم الخاسر: 

فأنت كالدهر مبثوثًا حبائله

والدهر لا ملجأ منه ولا هرب

ولو ملكت عنان الريح اصرفه 

في كل ناحية ما فاتك الطلب

ومن التقدم والتغيير استخدام القياس المنطقي مثال على هذا قول البحتري:

دنوت تواضعا وعلوت مجدا

فشاناك انحدار وارتفاع

كذاك الشمس تبعد أن تسامى

ويدنو الضوء منها والشعاع

ونذهب إلى جمال التصوير وحسن الإبداع في ذلك كقول بشار بن برد:

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة

والأذن تعشق قبل العين أحيانًا

قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم

الأذن كالعين تُؤتي القلب ما كانا

هل من دواءٍ لمشغوفٍ جاريةٍ

يلقى بلقيانها روحًا وريحانا

تطور أوزان وقوافي الشعر في العصر العباسي الأول

إن الأوزان في الأبيات هي التي تفصل النثر عن نظم المفردات والأوزان هي روح الأبيات وخاصة إذا اجتمع مع روعة المعنى وإتقان الأساليب، وأهل الشعر في البداية غير محتاجين إلى دراسة ذلك.

إذا كان لديه أُذن موسيقية تسمع الحركات من حولها وعلى إثرها يتم الإبداع في نظم الكلام فنراهم ينظمونها على وقع الدواب والخيول، أو من خلال حركات أجسادهم وعلى ظهر خيلهم فكان لكل هذه الحركات مقياس الإيقاع لديهم وعلى إثرها ينظمون أروع الأشعار.

لكن ومع ازدهار الحياة والتي أصبحت تعج بسماع لغات غريبة وامتزاج بثقافات أعجمية أصبحت الحاجة ملحة إلى دراسة الأوزان المكتوبة، ومن هنا بدأت معالم العروض بالنمو والظهور وأول من أسسه هو الفراهيدي الذي أنتج ” خمسة عشر بحرًا” وفيها أنشد الشعراء ثم استحدث أحد طلابه بحرًا آخر لتصبح ستة عشر وهو المتدارك.

ومثال على هذه “الوافر”:

ظَمِئْتُ وفي فمي الأدبُ المُصَفّى

مُفاعلتن مُفاعلتن فعولُن

وَضِعْتُ وفي يدي الكنْزُ الثّمينُ

مفاعلتن مفاعلتن فعولن

وأيضًا البحر المتقارب:

ألا انْهَضْ وَسِرْ في سَبيلِ الحَياةِ

فعولن فعولن فعولن فعول

فَمَنْ نامَ لَمْ تَنْتَظِرْهُ الحَياة

فعولن فعولن فعولن فعول

أما بخصوص القوافي معروف عن أبيات القصائد منذ القدم كانت تنتهي بالحرف ذاته فنجد مسمى قصائد بائية أو قصائد نونية، وذلك عائد إلى الحرف في آخر كل بيت في القصيدة، أما في الفترة العباسية حيث ظهرت قصائد متنوعة القوافي فنرى في قصيدة نفسها أكثر من قافية.

وفي النهاية نستنتج أن أساليب نظم الكلام في العصر العباسي ازدهرت بتطور الأدب نتيجة الاندماج مع الحضارات الأخرى، فنرى تطورًا في الأساليب والمعاني والأوزان، ومن الذين اهتموا بالأساليب بشار بن برد والبحتري.


شارك المقالة: