الأدب العباسي بين التقليد والتجديد

اقرأ في هذا المقال


اتسم عهد بني العباس بتطور ملحوظ في مختلف مجالات المعرفة، وازدهرت حرية التعبير بعيدًا عن الظلم والإجحاف. يعود هذا التقدم إلى عوامل عدة، منها الحرية والانفتاح على ثقافات الشعوب الأخرى، ولا سيما العجم، حيث تم نقل ثقافاتهم وترجمتها والاستفادة منها. نتيجة لهذه العوامل، شهد الأدب نهضة كبيرة وتجديدًا في أشكاله وأساليبه. وفي هذا السياق، سنتناول الأدب في هذا العصر من حيث تقليده وتجديده.

تعريف التقليد

لغةً: قلَّد الأمر أجبره إياه، وتقلّد الرجل الحسام: مكان نجاد الحسام على منكبيه، المقلد: المكان.

اصطلاحًا: التقاليد في معانيه الأدبية يتضمن محاكاة كل ما يراه رواد الأدب قديمًا من أشكال بلاغية وتراكيب نمطية مأخوذة من القدماء والسابقين، ويعني أن أهل الأدب ورواد الكلام المنظوم يستفيدون من نتاجات سابقة لرواد سابقين.

ومن مفاهيم التقليد أيضًا هو إتباع الشخص غيره في كل أعماله وأقواله، أيضًا هو بوتقة من الثوابت والعادات المتداولة بين الأجيال.

رأي دعاة التقليد في العصر العباسي

شهدت تلك الفترة حروب أدبية ونقدية حامية الوطيس بين أهل التقليد في الكلام المنظوم وبين رواد التجديد، وانتشرت التفرقة بين الرواد إلى محافظين ومتمسكين بالموروث السابق ويعلو قدره، وإلى محدثين يبذلون جهدهم من أجل فك القيود والتحرر من القديم، وعن هذا قال المؤرخين:

” وقد أدى انقسام الشعراء على هذا النحو إلى الخصومة فيما بينهم، فكلا الفريقين يعتز باتجاهه وينعى على اتجاه الفريق الآخر، وهذا الخلاف بين أنصار القديم والحديث من الشعراء أدى بدوره إلى اختلاف النقاد أيضًا، فمنهم من تعصب للقديم لا يفضل عليه أي شعر، ومنهم من انتصر للحديث أيًا كان وأزرى بالقديم.”

لقد وقف رواد التقليد ضد الرواد المحدثين، وارتفعت وتيرة نقدهم لمقطوعات رواد الكلام المنظوم الحديث والذي كان له مكانة واسعة في ذاك الوقت، وقد وصل بهم الأمر إلى درجة استبعاد كل من خالف ما دوَّنه أهل المشرق وثار على التقاليد القديمة سواء في الشكل أو المضمون. 

ومن أسوأ الاتهامات التي نسبت إلى المحدثين بأنهم يأخذون من القديم ويقلدونه وبأسلوب غامض يلفه التعقيد بغرض التفوق على من سبقهم، وهذا يجعلهم يقعون في فخ التصنع، لذلك نجد أنصار التقليد يؤكدون أن الكلام المنظوم يتصف بالسجية والطبع، بعكس الحديث والجديد الذي فيه تكلف، ومن هذا المنطلق بدأ الشعور بأهمية القديم وجعله النموذج الوحيد المقدس الذي يجب أن يتم اتباعها للمحافظة على الاصالة. 

نشأة الصراع بين القديم والحديث

إن موضوع النزاع بين الماضي والحاضر فكرة مبنية على تباين الزمن وتبدل الأحوال وتنوع رأي الناس للأمور من حولهم، وهي توضح التباين بين الأجيال في كافة الأمور وبرزت العديد من القضايا التي ظهرت نتيجة لنزاعات بين الماضي والحاضر ومن هذه القضايا تنوع التفكير والذائقة.

تطور الأمور بفعل الزمن وتنوع تفاعل البشر مع مسائل معينة بتنوع الوقت الذي يحيون فيه وهنا يبرز أساس الصراع ونجد هنا اختلاف الوقت يدفع إلى تبديل النظرة للأمور، فَمفهوم التقليد والتجديد متعلق بالزمن والوقت.

اختلاف الذوق الأدبي باختلاف الزمن

إن الذوق له مكانة مهمة في تشكيل الإنتاج الفني والأدبي وفي قبولها وبيان الفرق بينهما وإطلاق الحكم عليها، فَالذوق له تأثير كبير في الأدب وكذلك النقد وهو يتنوع ويختلف باختلاف الأشخاص، فكل شخص له ذوق يتفرد يتفرد به لا يشبه به شخص آخر.

ويظهر لنا رأي الجاحظ في هذا العصر قضية التقليد والتجديد من خلال ” كتابه البيان والتبيين” فهو لم يحكم على النص من خلال الوقت الذي قيل فيه، فهو يرتكز على مدى إتقان رواد الأدب للنص ومدى تأثيره في نفس المتلقي وأيضًا خلوه من الأخطاء والمحافظة على سلامة اللغة والمفردات، ورأى الجاحظ أن في التجديد روح جميلة فيه إتقان وجوده كما في القديم، وكان مأخوذ بمقطوعات أبو نواس التي نظمت في المواضيع المحدَّثة.

شعر أبو نواس بين التقليد والتجديد في العصر العباسي

كان أبو نواس غارقًا في حياة اللهو والشرب وكان متعلقًا بالأدب يواظب على مجالسة الأدباء والأخذ منهم، نظم في العديد من المواضيع وخصوصًا الخمريات التي تعد من الأغراض التقليدية لكنه تناولها بأسلوبه الذي ظهر فيه ملامحه وملامح البيئة التي ترعرع فيها ومن أقواله في الخمريات:

دَع عَنكَ لَومي فَإِنَّ اللَومَ إِغراءُ

وَداوِني بِالَّتي كانَت هِيَ الداءُ

صَفراءُ لا تَنزَلُ الأَحزانُ ساحَتَها

لَو مَسَّها حَجَرٌ مَسَّتهُ سَرّاءُ

مِن كَفِّ ذاتِ حِرٍ في زِيِّ دي ذَكَرٍ

لَها مُحِبّانِ لوطِيٌّ وَزَنّاءُ

قامَت بِإِبريقِها وَاللَيلُ مُعتَكِرٌ

فَلاحَ مِن وَجهِها في البَيتِ لَألَاءُ

فَأَرسَلَت مِن فَمِ الإِبريقِ صافِيَةً

كَأَنَّما أَخذُها بِالعَينِ إِغفاءُ

رَقَّت عَنِ الماءِ حَتّى ما يُلائِمُها

لَطافَةً وَجَفا عَن شَكلِها الماءُ

فَلَو مَزَجتَ بِها نوراً لَمازَجَها

حَتّى تَوَلَّدُ أَنوارٌ وَأَضواءُ

ملامح التجديد في الأدب العباسي

1- التجديد في الرثاء: كان في السابق يتوقف على رثاء الأشخاص، ولكن في تلك الفترة انبثق من الرثاء أنواع جديدة مثل رثاء الولايات التي عانت من النزاعات، وكذلك المصائب البيئية كما انتشر رثاء للحيوان وبكاء الطيور وهذا لم يكن معروفًا سابقًا ومثال على ذلك بكاء أبو الفرج على ديك يملكه:

أبكي إذا أبصرت ربعك موحشا

بتحنُّن وتأسُّف وشهيق

ويزيدني جزعاً لفقدك صادح

في منزل دان إلي لصيق

قرع الفؤاد وقد زقا فكأنّه

نادى ببين أو نعي شقيق

فتأسفي أبداً عليك مواصل

بسواد ليل أو بياض شروق

وإذا أفاق ذووا المصائب سلوة

وتصبروا، أمسيت غير مفيق

2- التحديث في أدب الوصف: يعتبر الوصف من أبرز الأشكال الحديثة، والتي ظهرت كي تواكب البيئة الجديدة والحياة الحديثة قول أبو تمّام في وصفه للربيع إذ يقول:

إنّ الربيعَ أثَرُ الزّمانِ

لو كانَ ذا روحٍ وذا جُثمانِ

تختالُ من مفوّف الألوانِ

في زهرٍ كالحدقِ الروّاني

من فاقعٍ وناصعٍ وقانِ

عجبْتُ لكُلّ ذي فكرى يقظانِ

3- بروز أدب الزهد والتصوف: برز ذلك نتيجة حياة اللهو والمجون التي شاعت في تلك الفترة وخصوصًا بعد الاندماج مع شعوب أعجمية والتأثر بهم، ومثال على هذا قول رابعة العدوية:

راحتي يا أخوتي في خلوتي

وحبيبي دائماً في حضرتي

لم أجد لي عن هواه عوضاً

وهواه في البرايا محنتي

حيثما كنت أشاهد حسنه

فهو محرابي إليه قبلتي

إن أمت وجداً وماثم رضا

والعناني في الورى وشقوتي

يا طبيب القلب يا كل المنى

جد بوصل منك يشفي مهجتي

يا سروري وحياتي دائماً

نشأتي منك وأيضاً نشوتي

4- ظهور أدب التهكم والسخرية: برز هذا النوع بشكل واسع في تلك الفترة وكانت تمتاز بلغة متواضعة تعُّج بِالهزل والتهكم، وهذا ما كان عند الشاعر دعبل الخزاعي في قوله:

وعاثتْ بنو العباس في الدينِ عيثةً             

تحكَّمَ فيها ظالمٌ وظنينُ

وسمُّوا رشيدًا ليسَ فيهمْ لرشدهِ

وها ذاكَ مَأْمُونٌ وذاكَ أَمينُ

فما قبلتْ بالرشدِ منهمْ رعايةٌ

وَلا لِوليٍّ بالأَمانَةِ دِينُ

رَشيدُهم غاوٍ، وطِفلاهُ بَعْدَهُ

لهذا رزايا، دونَ ذاكَ مجونُ

وفي النهاية نستنتج أن التقليد والتحديث من أهم القضايا التي انتشرت في ذاك الزمن، وانقسم رواد الأدب والنقد في ذلك الوقت إلى فئتين فئة متعصبة للقديم الموروث وفئة للحديث، وكل فئة منهم يتعصب للاتجاه الذي نهجه.


شارك المقالة: